منتزه المقرن العائلي شواهد التاريخ وحقائق الجغرافيا
بروفيسور إبراهيم محمد آدم
الخرطوم=^المندرة نيوز^
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي وكنت وقتها في المرحلة المتوسطة زرت الخرطوم لأول مرة ومن المناطق التي قصدتها منتزه المقرن العائلي، حديقة الحيوان والمتحف القومي، كان حينها الزمان أخضر ووجه الخرطوم مبتسم، والليالي جميلة حالمة، ومما لفت نظري في حديقة المقرن لافتات حديدية إرشادية صغيرة مكتوب عليها القلوب الرحيمة لا تعرف قطف الزهور لذلك كانت أشجار الجهنمية بورودها متعددة الألوان تملأ المكان ولست أدري أين ذهبت تلك الورود الآن، فنفس القلوب التي كانت لا تعرف قطف الزهور حطمت ذات يوم قريب أسوار منتزه المقرن فيما أسموه تعبيراً عن الرأي ولهؤلاء أقول ما لكم كيف تحكمون.
تطاولت سنوات غيابي عن زيارة المنتزه رغم أني قد أصبحت مجبراً على الإنتساب إلى ساكني الخرطوم بعد أن تحولت هي إلى سودان مصغر غير منتج يعتمد اقتصاده فقط على خدمات قليلة، وتريفت المدينة حين هجر أهل الريف مزارعهم وقراهم مجبرين بفعل قسوة الطبيعة وويلات الحروب وفساد بعض السياسيين.
وذات يوم مضى فكر أبنائي في زيارة منتزه المقرن بعد أن رأوا من على الكبري تحسينات بدأت قبل ثلاث سنوات فاستجبت لتلك الرغبة التي تجعلني في دور أحد سياح الداخل بعد غياب بي طال، وصلنا شباك التذاكر الذي يجلس خلفه شباب أمناء سألتهم عن سعر التذكرة فقالوا لي خمسمائة جنيهاً عددت أطفالي وهممت بالدفع فبادروني بالتصويب أن التذكرة للكبار فقط ودخول الأطفال مجاناً، فشكرتهم على هذه الفكرة الرائعة التي تخفف على الأسر كثيراً رهق كلفة التذاكر والألعاب فيقبلون على المنتزه لقضاء أوقات جميلة، الألعاب كانت ممتعة أسعدت الأطفال كثيراً فهؤلاء مع أسرهم يلعبون وشباب آخرون يستمعون ويرقصون على أنغام فنانة لم أسمع باسمها من قبل، ففي هذه الأيام ربما يقول الإحصائيون أن نسبة الفنانات أو الفنانين ولاحظوا أني قدمت الفنانات حتى لا أدخل في جدل مع زميلاتي وزملائي من المهتمين و المهتمات بقضايا النوع كما يقولون، ولربما تكون النسبة فنانة لكل مائة مواطن أو يزدن، المهم فقد صدحت تلك الفنانة وأطربت كثيرين كما تراءى لي ذلك من بعيد، وإلى جوارها شاهدت شباباً يرقصون تحت وقع أغاني من غرب كردفان تبينت منها الجراري والكدنداية، توقفت الفنانة فاصلاً لصلاة المغرب وتوقف أولئك الشباب في الحلقة الأخرى والذي أعجبني أنهم توضئوا وقصدوا المسجد ثم لم يعودوا ربما لإنتهاء برنامجهم .
وعندما قصدتُ الوضوء كانت نقطة الضعف المتوقعة هي الحمامات فهي أشبه بمكب النفايات والغريب أن هذا الوضع صار القاسم المشترك الأكبر بين كل مؤسساتنا بما في ذلك واجهتنا الدولية مطار الخرطوم فهو بذات الوصف الذي يجعلني استغرب هل يزور مديرو المطار والمنتزه والمؤسسات الأخرى الحمامات، فهي في البلاد الأخرى من أنظف الأماكن ومقياس للرقي والتحضر فأحد المباني التابعة لبلدية سيول عاصمة كوريا الجنوبية قد صمم على شكل حمام، وأتمنى أن تكون رسالتي المخففة هذه قد وصلت للجهات المعنية.
لم أكتف بمتابعة أطفالي وهم يلعبون ولكني تخليت عن دور السائح لأتقمص روح المعلم فأخذتهم في جولة لتبيان بعض شواهد التاريخ وحقائق الجغرافيا فوقفنا عند ملتقى النيلين وقلت لهم هنا يلتقي الأبيض بالأزرق ليكونا نهر النيل وبينهما برزخ لا يبغيان كما في الآيات (19-22) من سورة الرحمن التي درستموها في المدرسة (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، وقد اعتبرها مفسرون شاهداً على قدرة الله وبديع صنعه عند التقاء النهرين الذي يبدو ظاهراً للعيان ويتجسد أيضاً عند تلاقي مياه النهر بمياه البحر، وهو المشهد البديع الذي يمكنك رؤيته كذلك عند التقاء مياه نهر النيل العذبة ومياه البحر المتوسط عندما يصب فيه فرعي دمياط ورشيد ، أو عندما تصب المياه العذبة في مياه البحار والمحيطات في أمثلة أخرى فيُشكّل ذلك حاجزاً يفصل بين أي مسطحين مائيين أو بحرين مختلفين في صفاتهما الطبيعية كما في النقطة التي تلتقي خلالها مياه البحار الجليدية الذائبة مع خليج ألاسكا، قلت لهم أن هذا الموقع لو كان في أي دولة أخرى لأصبح من أهم المعالم السياحية فالنيل الذي ألهم الشعراء هو من أنهار الجنة.
أما الأهمية التاريخية فإن بعض الروايات تقول أن النبي يونس أتى إلى هذه المنطقة ، عندما اتخذ الحوت سبيله في البحر، وحين تركه عند الصخرة، وهي بجزيرة توتي المقابلة للمنتزه بوسط الخرطوم، كما أن مقرن النيلين هي المنطقة التي تعلم فيها النبي موسى الحكمة عندما التقى بسيدنا الخضر، و قد تم ذلك على صخرتين كبيرتين في المنتزه يرجع تاريخهما إلى ذلك الزمان. أما الصخرة الثانية فهي غامضة، تنبع منها المياه الصالحة للشرب. ويقال أن عدداً من اليهود في حالة وفاة شخص لديهم قبل مغادرتهم للسودان منذ عقود، كان يتم إحضاره إلى الصخرة ووضعه عليها ثم غسله ودفنه، كما تلاحظ زيارة عدد من السياح إلى الصخرة بمجرد وصولهم مطار الخرطوم، والراجح أن معظم زوّار الصخرة من اليهود الذين كانوا سابقاً يتسللون إلى السودان تحت هوية سياح أوربيين، أما وقد أصبح الأمر متاحاً بالنسبة لهم بعد التطبيع مع إسرائيل فمن المتوقع زيادة أعدادهم وسياح آخرين للمنطقة .
ويمكن لولاية الخرطوم إستغلال تلك المعالم كمزار سياحي، فقد حكى لي الأخ السفير سليمان عبد التواب أنه عندما كان مكلفاً بإدارة الثقافة بولاية الخرطوم طلب منه السفير الإيراني زيارة ملتقى النيلين فوجد صعوبة في ذلك لم تذلل إلا بعد نظافة تلك المنطقة لتتم الزيارة، وعندما أقارن هذا برأس البر في مصر حيث يلتقي فرع دمياط بالبحر الأبيض المتوسط تجد الشاطيء منظماً وجميلاً فأصبح قبلة لسياح الداخل والخارج، غير أن الذي أسعدني في منتزه المقرن أن منصةً جرى إعدادها ولا يزال العمل فيها مستمراً قد تمكن الزائرين من رؤية ملتقى النيلين عن قرب.
وقد تعرض لتلك الشواهد التاريخية والحقائق الجغرافية الدكتور النيل أبو قرون في كتابه الموسوم (نبي من بلاد السودان) وفي تقديري أن ما جاء في هذا الكتاب حقائق مهمة إذا عملت بها الجهات المسئولة على مستوى المركز وولاية الخرطوم لتضاعفت لدينا مداخيل السياحة.