رحلة إلى الجنينة دار اندوكا
بروفيسور إبراهيم محمد آدم
الخرطوم=^المندرة نيوز^
في مخيلتي صورة ما للجنينة عاصمة السلطان محمد بحر الدين ، سلطان دار مساليت، وحين كنت أجتر ذلك في الطائرة قطع حبل أفكاري لغط نساء كثيف ، ذكرني بلغط النساء في الجناح الشمالي من منزل بطل الطيب صالح في قصة رسالة إلى أيلين حين اتضح لأذنيه اللغط، لغط النساء اللائي جئنَّ يهنئنَّ أمه بوصوله سالماً من البلد البعيد، أما أنا فحين تبينت مصدره عرفت أنه لمضيفات الطائرة، إذ لأول مرة يكون مقعدي إلى جوارهن مباشرة ذهاباً وإياباً حتى في المرات التي احظى فيها بركوب الدرجة الأولى، ربما لأن المقاعد هنا عامة وبلا درجات، فقد كن يتبادلن الحديث كأنهن في منزل إحداهن، مع إن واجبهن هو فقط الترحيب بالمسافرين أو وداعهم أو ذكر خطوات السلامة التي تقريباً لم يستفد منها أي أحد في العالم عند سقوط طائرة .
الجنينة تمثل لي انتصارات السلطان تاج الدين إسماعيل عبد النبي الذي أقلق مضاجع الغزاة العتاة الفرنسيين الذين حاربوه فانتصر عليهم نصراً مبيناً، و هو الوحيد الذي ثبت أركان سلطنته تحت الحكم الذاتي ابان الإحتلال الإنجليزي للسودان وذلك بموجب الاتفاقية الثلاثية المشهودة وهو قد خُير من بين ثلاثة خيارات، هي الإنضمام إلى جمهورية تشاد أو الإضافة إلى جمهورية السودان أو أن تصبح سلطنة دار مساليت دولة قائمة بذاتها وعاصمتها دار جيل، وهي قرية تقع شرق الجنينة، ولكن لم تثن تلك الخيارات السلطان تاج الدين عن مواصلة الإنضمام إلى أشقائه في السودان لأن في ذلك قوة ومنعة له فخيار الإنضمام إلى تشاد معناه الدخول تحت الاحتلال الفرنسي. وهو يريد أن يعيش في حرية مدافعاً عن دينه مواصلاً عطائه لشعبه وكما علمت من الأخ البروفيسور الطيب علي أحمد مدير جامعة الجنينة آنذاك أن اندوكا التي لقب بها السلطان بحر الدين هي تحريف للكلمة العربية ( اندوكا، انطوكا، أعطوك )، وهذه الكلمة تعود إلى السلطان محمد بحر الدين، والذي كان يلقب بأندوكا، وهو مؤسس مدينة الجنينة وذلك بعد قيامه بنقل عاصمة سلطنة مساليت من درجيل شرق وادي كجا، إلى الجنينة على الضفة الغربية مباشرة لهذا الوادي. والجنينة هي أصلاً كانت المنتجع الخاص أو جنينته “حديقته ” الخاصة التي ينتجع فيها أوقات الراحة وقد سمي بذلك لأنه كان كريماً جواداً كلما سأله شخص عن مسألة قال له أعطيت لك.
تقع المدينة على ارتفاع 800 متر عن سطح البحر، وتبعد مسافة 350 كيلومتراً من الناحية الغربيّة عن مدينة الفاشر، و1200 كيلومتراً عن العاصمة الخرطوم، و27 كيلومتراً عن حدود تشاد مع السودان. كما أنّها يمر بها طريق سريع من الجزء الجنوبي الشرقي منها المؤدّي إلى نيالا. وتنحصر إحداثياتها على خط الإستواء بين خط عرض 13.45 درجة باتجاه الشمال، و22.43 درجة باتجاه الشرق على خط الطول غرينتش، ويزيد تعداد سكّانها عن 170 ألف نسمة.
أضاف إلى ذاكرتي عن تلك الأيام قصائد شاعرنا الكبير عالم عباس محمد نور خاصة ملحمته الرائعة سوميت بنات دار جيل وهي عاصمة مساليت منذ القرن التاسع عشر والى قرار انضمامهم للسودان في عام 1921م كما أسلفنا حيث انتقلت العاصمة إلى الجنينة، فقد كانت عملا شعرياً خلاقاً، ففي دار جيل فإن هذا الشاعر يتعرف على مكونات ذاته وإمكانيات وطنه فيحزم أمره لينطلق في إستيعاب قضاياه الكبيرة، ومن الجنينة دار اندوكا كتب تلك القصيدة وهي الثانية من حيث الأهمية في أشعاره بعد أن كتب قبلها قصيدة أزوم التي نال بها جائزة الشعراء الشباب في العام 1973م، إن السنوات التي قضاها عالم عباس في مدينة الجنينة قد أسهمت بقوة في تشكيل وجدانه الشعري حيث صور في تلك القصيدة جمال وطننا السودان شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، في قصيدة مرصعة بالسكسك والسوميت ومضمخة بعطور الجنينة الباريسية والتي اشتهرت بها لقربها من تشاد حيث تأتي تلك العطور من فرنسا .
الجنينة خلدها في ذهني ما قرأت عن ذكريات الحرب العالمية الأولى في منطقة أردمتا وقد كانت القاعدة الجوية للحلفاء في الحرب العالمية الأولى والثانية وهناك العديد من الشواهد الحربية التي لا تزال ماثلة اليوم، فقد أقام الجيش الإنجليزي حاميته عند دخوله لدار مساليت أولاً ببلدة كرينك إلى الشرق من الجنينة عام 1919م، وفى عام 1921م تم انتقاله إلى بلدة أردمتا شرقي ضفة وادى كجا الذي تقع مدينة الجنينة على الناحية الغربية منه، حيث ظلَّت تلك الحامية موجودة هناك إلى يومنا هذا بعد أن اتخذتها قواتنا المسلحة مقراً لها، وقد مررنا بها ذهابا وإياباً من وإلى مطار الشهيد محمد أبكر صبيرة، ومن الملاحظات التي يجب الوقوف عندها وتصويبها ذكر المضيفات للمطار باسم مطار الجنينة وتجاهل اسمه الأصلي فالمطارات العالمية تدعى باسمها مثل مطار هثرو بلندن وشارل ديجول بباريس وجون كنيدي في نيو يورك وغيرها.
تلك كانت الرحلة الأولى بدعوة من مدير جامعة الجنينة المؤسس البروفيسور الشاب الطيب علي احمد الذي اثنت عليه وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي حينها في فاتحة مؤتمر قضايا التعليم العالي والذي عقد في تلك الفترة.
كان الترتيب جيداً للرحلة حيث كنا في معية البروفيسور الطيب عبد الوهاب ممثل الإتحاد المهني لأساتذة الجامعات والمعاهد العليا السودانيين للمشاركة في مؤتمر الجامعة الأول حول تقييم تجربتها لتشارك بتوصياتها في مؤتمر قطاع جامعات دار فور ومن بعد المؤتمر العام للتعليم العالي في الخرطوم، وقد كنا ضمن المناقشين للأوراق المقدمة والتي كانت غاية في الإتقان قدمها شباب علماء يجعلونك تشعر أن السودان لا يزال بخير .
كانت الجلسة الافتتاحية قد خاطبها مدير الجامعة متحدثاً عن نشأتها وكيف حققت قفزات كبيرة خلال أقل من عام في المعاني والمباني ويكفي أن المقر الذي عقد فيه المؤتمر ويضم إدارة الجامعة وعدداً من كلياتها ومراكزها قد كان في الأصل المقر الأول لبعثة اليوناميد التي انتقلت إلى مقر آخر جديد وتنازلت عن ذلك للجامعة وسط مطالبات به من عدة جهات وعندما طفنا به اتضحت لنا سعته الكبرى وإمكانية الاستفادة منه في كل مشروعات الجامعة المستقبلية إذ بلغت تكلفة إنشاءه 40 مليون دولاراً، هذا المبنى يجعلك تنظر إلى الحدود السودانية التشادية عن قرب فهو يبعد عنها فقط 15 كيلومتراً، وترى من بعيد قرية ادار مسقط رأس الشاعر العالمي السوداني الليبي حمد مفتاح الفيتوري فوالد الشاعر جاء من ليبيا تاجراً واستقر في دار مساليت وتزوج من المنطقة، والفيتوري قد نظم قصيده ذائعة الصيت عن استشهاد السلطان تاج الدين.
لم تكتف الجامعة بهذا المبنى ولكنها حازت على مبنى آخر كان مقراً للاتحاد الأفريقي وقد بادرت بصيانته وتهيئته ليصبح مقراً لكلية الطب والعلوم الصحية وقد شهدنا أيضا اتساع مساحته عندما زرناه برفقة السيد مدير الجامعة السابق، وفي تقديري أن تلك النجاحات التي أصابها ذلك المدير هي نتيجة إخلاصه وتفانيه فقد عايشته مبعوثاً للدكتوراه بجمهورية مصر العربية وأميناً عاماً لرابطة الطلاب السودانيين حين كان رئيسها الدكتور أحمد محمد بخيت ( شوقي)،حيث صال وجال في تلك الرابطة وحقق لزملائه المبتعثين الكثير من النجاحات في قضاياهم المطلبية وأنشطتهم الثقافية والاجتماعية التي كانت عبير أعمال المستشارية الثقافية لسفارتنا بالقاهرة، وساعدونا كذلك في انجاز العديد من الملفات.
لم ننس في تلك الزيارة أن نرى قصر ومتحف السلطان بحر الدين وقد شهد إعادة تأهيل من قبل وزارتي الثقافة الإتحادية والولائية في إطار الجنينة عاصمة الثقافة السودانية لذاك العام ليصبح مزاراً ومعلماً سياحياً يحكى للأجيال عراقة ماضيهم وتميزه ، ولذاك القصر موقع مميز في أعلى مكان بالمدينة يجعلك تبصرها كلها بتمعن من علٍ فتعرف حقيقة إسمها الجنينة، فهي فعلاً عبارة عن جنينة كبرى تحيط بها كل أشجار الفواكه والزينة المتغذية من وادي كجا الوارف.
أكملنا طوافنا بجلسة مسائية في منزل السلطان سعد عبد الرحمن بحر الدين الذي أوضح لنا أن منزل السلطان عامر بزواره صباحاً ومساءاً وقلنا له لماذا لم تبن أنت أيضا قصراً على قمة جبل كما فعل آباؤك وأجدادك السلاطين فقال لنا مازحاً أن الجبال قد انتهت بالجنينية لذلك أُفكر في بناء قصر في جبل أولياء بالخرطوم إذ لا تزال قمة الجبل وسفوحه العليا خالية من المباني عدا استراحة واحدة.
لم تتسع الزيارة للأسف لرؤية أكبر عدد من معالم المدينة ولكنا ودعناها بأمل العودة مجدداً حتى ننهل من تاريخها التليد وحاضرها الباهي ومستقبلها المشرق بإذن الله وعزيمة شباب علماءها وشعبها الطيب المضياف، في المقال القادم سوف نتناول إن شاء رحلة أخرى صحبنا فيها التيجاني حاج موسى وفيصل كبسور وقرشي الطيب ونجوم زواهر آخرين.