وكالات =^المندرة نيوز ^
تجري في إثيوبيا حاليا الاستعدادات لبدء الملء الثالث لبحيرة سد النهضة التي تستهدف تخزين حوالي 74 مليار متر مكعب من المياه في نهاية مواسم الملء، والتشغيل الكامل للسد. وعلى الرغم من عدم الاتفاق بين إثيوبيا ودولتي المصب: مصر والسودان على قواعد ملء وتشغيل السد، فإنها ماضية كل عام في تخزين ما تستطيع من الأمطار خلف السد، طبقا لما تسمح به طاقة الإنشاءات القائمة. وقد أتمت الملء الأول في العام 2020 وتخزين كمية تقل عن 5 مليارات متر مكعب، ثم ضاعفت هذه الكمية في الملء الثاني في العام الماضي.
وهي تطمح إلى مضاعفتها من جديد في موسم الأمطار الصيفية القادم، بإضافة ما يصل إلى 10 مليارات متر مكعب إلى مخزون المياه الحالي في بحيرة سد النهضة. هذا يعني عمليا زيادة احتمال أن تتعرض مصر لنقص في كمية المياه الواردة إليها في موسم الفيضان، خصوصا في حال انخفاض معدل سقوط الأمطار في الصيف عنه في العامين الماضيين.
وقد أعلنت إثيوبيا في كانون الأول/يناير الماضي أنها ستبدأ في شباط/فبراير في قطع أشجار الغابات حول السد في مساحة تبلغ حوالي 17 ألف هكتار، من أجل إتاحة مساحة أكبر لتخزين المياه في بحيرة سد النهضة مع بدء موسم الأمطار استعدادا للملء الثالث للسد. وطبقا للبيان الحكومي بهذا الشأن فإن أعمال قطع الغابات وتوسيع بحيرة السد التي استمرت في شهري شباط/فبراير واذار/مارس من المتوقع ان تكون قد اكتملت.
وكانت السلطات الإثيوبية قد نجحت في قطع أشجار الغابات وتطهير مناطق محيطة بالسد مساحتها 4854 هكتارا من الغابات قبل استقبال الأمطار في فترة الملء الثاني للسد في صيف العام 2021. وهكذا فإن إتاحة مساحة جديدة للتخزين تصل إلى أكثر من ثلاثة أضعاف المساحة التي أتاحتها عملية قطع أشجار الغابات في العام الماضي (17 ألف هكتار مقابل اقل من 5 آلاف) يعني أن إثيوبيا تستعد فعلا لتخزين كميات هائلة من مياه الأمطار هذا العام.
وطبقا لتقديرات الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة فإن إثيوبيا لكي تقوم بتنفيذ الملء الثلاث تحتاج إلى تعلية جسم السد بمقدار 20 مترا للوصول إلى ارتفاع يبلغ 595 مترا، وهو ما يحتاج إلى الكثير من الأعمال الهندسية والإنشاءات الخرسانية قبل البدء في تخزين مياه الأمطار في صيف العام الحالي.
وتهدف إثيوبيا هذا العام لتخزين كمية إضافية تقدر بنحو 10.5 مليار متر مكعب من المياه هذا الموسم، لتصل كمية المياه المخزونة في بحيرة السد إلى 18.5 مليار متر مكعب بنهاية الملء الثالث. وبعد ذلك يتم سنويا تخزين حوالي 10 مليارات متر مكعب جديدة سنويا حتى تصل كمية المياه المخزونة إلى طاقة التخزين القصوى في بحيرة السد التي تبلغ حوالي 74 مليار متر مكعب.
وكانت إثيوبيا قد أعلنت في 19 تموز/يوليو من العام الماضي أنها تمكنت من إنهاء عملية الملء الثاني قبل انتهاء موسم الأمطار ونجحت في تخزين 13.5 مليار متر مكعب بنهاية الملء الثاني، ثم سمحت للمياه الفائضة بالتدفق من أعلى جسم السد إلى مجرى النيل الأزرق. بينما تضمنت البيانات الرسمية عن الملء الأول تخزين 4.9 مليار متر مكعب. هذه الأرقام تفوق ما يقدره خبراء الري المصريون.
المفاوضات بين الأطراف الثلاثة إثيوبيا ومصر والسودان بشأن التوصل إلى اتفاق حول القضايا المتعلقة بسد النهضة بدءا من قواعد تخزين المياه وكيفية تشغيل السد في الأوقات العادية وفي فترات الجفاف وظروف الطوارئ، وتجنب حدوث أضرار لدول الحوض الشرقي للنيل توقفت عمليا منذ نيسان/أبريل من العام الماضي، في حين مضت أثيوبيا قدما في عملية الملء الثاني بدون اتفاق مع دولتي المصب.
وعلى الرغم من نداءات الأمم المتحدة إلى الأطراف المتنازعة باستئناف المفاوضات تحت إشراف الاتحاد الأفريقي، فإنها فشلت عمليا في اتخاذ خطوات إيجابية في هذا الإتجاه، وهو ما يعني أن الأطراف الثلاثة تقترب الآن من الوقت الحرج الذي يتعين عليها أن تستأنف المفاوضات وبناء قنوات ملائمة لتبادل المعلومات بشأن مستوى الفيضان وكيفية التعامل مع الموسم الثالث لملء خزان سد النهضة.
وزير الري والموارد المائية المصري الدكتور محمد عبد العاطي قال في مناسبات سابقة إن القاهرة اقترحت على أديس أبابا سيناريوهات مختلفة تضمن لها توليد الكهرباء التي تحتاجها بنسبة لا تقل عن 80 في المئة مما تخطط له إثيوبيا، بما في ذلك خلال فترات الجفاف، مؤكدا أن مصر لم تقف أبدا في وجه حقوق جيرانها في التنمية، ولا تعارض ملء خزان سد النهضة، لكنها تطالب بأن تلتزم إثيوبيا بخطة مرنة للملء وإطلاق كميات كافية من المياه المخزونة في البحيرة في أوقات الجفاف، وهو ما تعتبره إثيوبيا اجحافا بحقوقها، خصوصا اصرار مصر على إطلاق المياه حتى في حال الجفاف وعدم هطول أمطار.
وفي كل المناسبات السابقة التي رافقت عمليات الإنشاءات وتخزين المياه والمفاوضات تكررت المخاوف من تحول الخلافات بشأن سد النهضة إلى نزاع مسلح، لكن هذه المخاوف ثبت أنها مبالغ فيها إلى حد كبير، وأن حكومة إثيوبيا التي واجهت تحديا كبيرا في المواجهات المسلحة مع جبهة تحرير تيغراي في العام الماضي، استطاعت أن تنجز الملء الثاني وأن تحتفل ببدء توليد الكهرباء من السد بدون التعرض لأي مشاكل حقيقية أو ضغوط مؤثرة من كل من مصر والسودان.
ومن المتوقع أن يستمر الحال على ما هو عليه في موسم الأمطار المقبل، وأن تكمل إثيوبيا الملء الثالث لسد النهضة بدون مشاكل حقيقية، خصوصا وأن حالة الجفاف التي تهدد منطقة القرن الأفريقي تعزز الحجج الإثيوبية.
وفي 15 ايلول/سبتمبر الماضي أصدر مجلس الأمن بيانا دعا فيه أطراف النزاع حول سد النهضة إلى تسوية خلافاتهم بالمفاوضات تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، بغرض التوصل إلى اتفاق نهائي مقبول وملزم بشأن ملء وتشغيل السد.
ويبدو من متابعة التصريحات وردود الفعل السودانية عدم وجود تطابق في الموقفين المصري والسوداني بشأن الآثار السلبية لسد النهضة على كل من البلدين، وهو ما يضعف الموقف التفاوضي وقدرة مصر على ممارسة الضغط على إثيوبيا.
ويرى السودان انه سيستفيد من وجود سد النهضة في الحصول على الكهرباء لسد جزء من احتياجاته، وتنظيم جريان المياه في النيل الأزرق في أوقات موسم الأمطار، وهو ما يخفف الأضرار التي تتعرض لها القرى على جانبي النيل الأزرق.
مخاطر تحيط بموسم الأمطار
تشير معدلات سقوط الأمطار وخرائط توزيعها خلال الموسم الحالي إلى تأثير واسع المدى لتغيرات المناخ في العالم على قارة أفريقيا بشكل عام، وعلى أقاليم الجنوب والقرن الأفريقي بشكل خاص.
وقد أظهرت الفيضانات التي تعرضت لها بعض المناطق في جنوب أفريقيا في الشهر الحالي حدة تغيرات المناخ، بما أدى إلى غرق عشرات الأشخاص، وتدمير الكثير من الأماكن، وأجبرت الحكومة على اعتبار تلك المناطق «مناطق منكوبة» منها مدينة ديربان والمناطق المحيطة بها.
وفي الوقت نفسه فقد سجلت معدلات سقوط المطر في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي تفاوتا كبيرا، حيث شهدت بعض المناطق سقوط أمطار شديدة الغزارة بينما تعرضت مناطق أخرى لجفاف شديد. ففي إثيوبيا واريتريا والصومال وجنوب السودان والسودان شهدت بعض مناطق الغرب والجنوب سقوط أمطار غزيرة، في حين تعرضت مناطق الشمال والشرق لحالة من الجفاف. وطبقا لتقارير الأرصاد الجوية لمركز الارصاد التابع لأنظمة «إيقاد» فإن مناطق شمال وشرق إثيوبيا قد تتعرض في العام الحالي لأسوأ موجة جفاف منذ 40 عاما.
وتبين خرائط توزيع الأمطار حاليا في السودان أن 14 ولاية تعاني من الجفاف بسبب الانخفاض الشديد في معدلات سقوط الأمطار منها ولايات البحر الأحمر وكردفان ودارفور. وتتوقع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ان يؤدي ذلك إلى نقص إنتاج المحاصيل الزراعية ونقص المراعي الطبيعية للحيوانات. وإذا امتد الجفاف إلى موسم الأمطار الصيفية الذي يمتد بين شهري حزيران/يونيو وايلول/سبتمبر، فإن ذلك سيكشف خطورة أزمة تباين توزيع المياه ومعدات سقوط الأمطار في منطقة القرن الأفريقي ككل.
ولا تتوقف خطورة التغيرات الحادة في كميات سقوط الأمطار والتباين في توزيعها بين الأقاليم المختلفة في تأثيرها الشديد على مستويات توزيع المياه وإنتاج الغذاء، وإنما تمتد إلى تهديد المرافق المائية المقامة على نهر النيل لتنظيم تدفق مياه الفيضان خلال موسم الأمطار، بما في ذلك سد النهضة، خصوصا في مناطق الانشاءات والأعمال الخرسانية غير المكتملة. وقد تعرضت مناطق في جنوب السودان والمناطق الحدودية بين السودان واثيوبيا لمثل تلك المخاطر في فيضان العام الماضي. هذه المخاطر تستوجب سرعة ومرونة الاتصالات وتبادل المعلومات بين إثيوبيا ودول المصب، وإقامة نظام للإنذار المبكر يضمن وضع ترتيبات للوقاية من آثار التدفقات الحادة لمياه الأمطار في مناطق بعينها.
ففي جنوب أفريقيا على سبيل المثال أدت غزارة هطول الأمطار خلال 72 ساعة فقط (11-13 من الشهر الحالي) في مناطق كوازولو- ناتال وشرقي إقليم كيب تاون إلى موت أكثر من 400 شخص، وارتفاع عدد المفقودين إلى عشرة أضعاف هذا الرقم، وتدمير أكثر من 4000 مسكن.
ومع أن خرائط الطقس لم تؤكد بعد اتجاهات ومعدلات سقوط الأمطار في دول حوض النيل خلال موسم الأمطار في فصل الصيف، فإن التباين الشديد خلال موسم أمطار الربيع ينذر بتكرار النمط نفسه خلال فصل الصيف، وهو ما يعزز ضرورة استئناف الاتصالات الفنية على الأقل بين كل من إثيوبيا ومصر والسودان.
ويبدو من متابعة التطورات في العلاقات بين إثيوبيا والسودان، حرص كل منهما على تجنب حدوث أضرار فيضان العام الماضي الذي كان مرتفعا. وفي المقابل فإن العلاقات بين إثيوبيا ومصر لا تبدو في حالة جيدة، خصوصا مع تشعب الخلافات بينهما إلى مجالات أخرى منذ حرب تيغراي، أخطرها الآن تفاقم النزاع بشأن الولاية على دير السلطان في القدس بين ممثلي الكنيستين القبطية والإثيوبية.