الخرطوم=^المندرة نيوز^
مما لا شك فيه أن الحرب قد خلفت تداعيات أمنية واسعة النطاق يصعب حصرها. ولكن في هذا السياق، يتركزاهتمامنا بشكل خاص على الجوانب العدلية والقانونية التي تمس صميم عمل أجهزة العدالة، والمتمثلة في القضاء ووزارة العدل والنيابة العامة والشرطة.
تجدر الإشارة بالإشادة بالتماسك القوي الذي أبدته هذه الأجهزة خلال فترة الحرب، والذي شكل بالفعل الركيزة الأساسية لقوة الدولة وصمودها. وعلى الرغم من تصرفات بعض ألاشخاص، إلا أنها لم تنل من تماسك هذه المؤسسات.
لا يخفى على أحد حجم المهام المشتركة والمتداخلة بين هذه الأجهزه، والتي تتكامل جميعها في إطار مسار العدالة الجنائية. يبدأ هذا المسار بتوفير البيئة التشريعية الملائمة وفتح الدعاوى الجنائية وجمع الاستدلالات، مرورًا بمرحلة التحري والقبض والتفتيش والأعمال الوقائية، وصولًا إلى إجراءات المحاكمة وتنفيذ الأحكام القضائية.
من أبرز المعضلات التي تواجه هذه الأجهزة، والتي تكتسب أولوية آنية، ما يلي:
(١) ملف نزلاء السجون والموقوفين:
تبرز قضية المقبوض عليهم قبل الحرب، سواء كانوا يقضون مددًا عقابية في السجون أو قيد انتظار المحاكمات، كإحدى المشكلات الملحة التي تواجه هذه المرحلة. نشير هنا بشكل خاص إلى وجود أعداد كبيرة من المحكوم عليهم بالإعدام الذين كانوا ينتظرون استكمال إجراءات التنفيذ. إلا أن عدم تشكيل المحكمة الدستورية قد حال دون إتمام هذه الإجراءات. ونتيجة لهذا التأخير، تشير المعلومات إلى انضمام أعداد كبيرة من هؤلاء المحكومين، وخاصة موقوفي الإعدام، إلى المليشيات، التي وفرت لهم بيئة بديلة للبقاء في ظل محدودية خياراتهم الاجراميه.
من الضروري إدراك خطورة هذا الوضع، حيث أصبح الآلاف من هؤلاء الأشخاص طلقاء ويحملون السلاح، مع وجود احتمال كبير لتخفي عدد منهم بين صفوف المواطنين في المدن والقرى. تعتبر هذه المشكلة ذات أولوية قصوى تستدعي تحركًا عاجلًا ومنسقًا من الأجهزة العدلية بالتعاون مع الجهات المختصة لتسريع عملية تشكيل المحكمة الدستورية للبت العاجل في هذه القضايا المعلقة. فقد ساهم غياب المحكمة بشكل ملحوظ في اختلال الوضع الأمني وتفاقم حالة الفوضى، كما أضعف من تحقيق الردع المجتمعي المنشود من العقوبات.
بالإضافة إلى ذلك، يتعين على هذه الأجهزة تشكيل لجان متخصصة لجمع البيانات الدقيقة وتحديد أماكن وجود هؤلاء الأشخاص. ولا شك أن هذه المرحلة تتطلب إنشاء غرفة عمليات ميدانية مشتركة ومجهزة بكافة الإمكانيات اللازمة لضبط هؤلاء الجناة بكفاءة وفعالية.
(٢) التعامل مع الكم الهائل من البلاغات الجنائية:
تستدعي المرحلة الحالية عملية استنفار قصوى لمواجهة الكم الهائل من البلاغات الجنائية المتراكمة. فكما هو معلوم، شهدت الحرب انتهاكات واسعة طالت الأرواح والأجساد والممتلكات، مما أدى إلى ارتفاع كبير في عدد البلاغات المتعلقة بمختلف أنواع الجرائم. يتطلب ذلك وضع آليات فعالة لتلقي وتسجيل وتصنيف هذه البلاغات، وتحديد أولويات التحقيق فيها بناءً على خطورتها وأهميتها.
(٣) تحديات عمليات الضبط الميداني:
مما لا شك فيه أن الحرب قد ألقت بظلالها على سلوك المشتبه بهم وأنماط الجريمة وأساليب ارتكابها والأدوات المستخدمة فيها. فبعد الانتشار الواسع للسلاح الذي خلفته المليشيات، والذي سُلِّح به معتادو الإجرام والذي تُرِكَ في منازل المواطنين وبيعه للمواطنين بعد هروبهم، أصبح التعامل مع الجناة في المرحلة القادمة يختلف جوهريًا عن الفترات السابقة. يتطلب ذلك تطوير آليات جديدة للتعامل مع هذه المستجدات وتوفير التدريب اللازم للعناصر الأمنية لمواجهة هذه التحديات وضمان الحماية القانونية لهم أثناء أداء واجبهم.
الحلول المقترحة العاجلة لهذه المرحلة:
أولًا: تفعيل آلية تنسيق الأجهزة العدلية: يجب تفعيل آلية التنسيق بين الأجهزة العدلية المختلفة بشكل مؤسسي ومنظم على مستوى قيادات هذه الأجهزة، وتحويلها إلى غرفة عمليات مركزية لإدارة هذا الجانب من مرحلة ما بعد الحرب على نمط غرفة السيطرة العملياتية التى تدير العمليات العسكريه لان هذه المرحله لاتقل اهميه، و يجب أن تتولى هذه الآلية تبادل المعلومات وتنسيق الجهود وتحديد الأولويات المشتركة.
ثانيًا: الإسراع في تشكيل المحكمة الدستورية:
يمثل ذلك خطوة حاسمة لاستكمال الدورة العدلية وتحقيق العدالة الناجزة، وتجنب التأخير في تنفيذ الأحكام وتعطيل مسيرة العدالة. يجب على الجهات المعنية بذل كافة الجهود لتذليل العقبات أمام تشكيل المحكمة في أقرب وقت.
ثالثًا: التوسع في هياكل الأجهزة العدلية:
يستدعي الأمر التوسع المدروس في هياكل هذه الأجهزة، سواء من خلال إنشاء وحدات ذات اختصاص نوعي أو اختصاص مكاني (لتغطية مناطق محددة بشكل أفضل، مثال لذلك الانتشار في المناطق التي تعرضت للانتهاك بصورة أكبر)، بهدف تسهيل عمليات التحري والضبط والمحاكمة بكفاءة أكبر. يجب أن يصاحب هذا التوسع توفير الكوادر المؤهلة والمدربة.
رابعًا: مراجعة وتحديث التشريعات:
تتطلب المرحلة الحالية مراجعة شاملة للتشريعات القائمة، مع الأخذ في الاعتبار التداعيات التي أفرزتها الحرب والممارسة العملية، وأوجه القصور التي ظهرت في مختلف القوانين. ويأتي هذا بشكل خاص لكون هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الأحداث في ظل التشريعات الساريه
(١) استحداث بعض الجرائم او تشديد عقوبات الجرائم المرتبطه بافعال التمرد وبوجود وزارة العدل ضمن هذه الأجهزة، يصبح لها دور كبير في هذا الجانب.
(٢) تعزيز الحماية القانونية لقوات الشرطة:
في ظل التحديات المتزايدة وانتشار السلاح، يصبح من الضروري مراجعة وتفعيل مواد الحماية القانونية لقوات الشرطة، خاصة ما يتعلق بالحماية الموضوعية والإجرائية المنصوص عليها في قانون الشرطة، لتمكينهم من أداء واجبهم في حفظ الأمن وإنفاذ القانون بفعالية ودون خشية .
(٣) مراجعة سلطات التحرى تشريعيا(قانون الاجراءات الجنائيه لسنة ١٩٩١)
خاصة فيما يتعلق بإجراءات التحري وجمع الأدلة. ونظرًا لأن الشرطة هي الجهاز الأكثر انتشارًا وتعاملاً مع البلاغات ولها خبرات كبيرة، مما يتطلب تعديل الإجراءات الخاصه بسلطات التحرى بما يتناسب مع حجم البلاغات الكبيرة، بحيث تكون سلطة التحري تنسيقية وتشاركية لتقصير الظل الإشرافي لتسريع وتيرة العمل.
خامسًا: الاستعانة بالمتقاعدين وذوي الخبرات:
نظرًا للأعباء الكبيرة التي ستواجهها هذه الأجهزة، وخاصة جهاز الشرطة الذي يمثل المحور الأساسي في هذه العملية بالإضافة إلى مهامه الاعتيادية الأخرى، وفي ظل الظروف الاستثنائية، يصبح من الضروري الاستفادة من الكفاءات والخبرات. يمكن تحقيق ذلك من خلال استدعاء الضباط وضباط الصف المتقاعدين القادرين وذوي الخبرات في مختلف التخصصات للعمل بإعادة خدمتهم أو بعقود خدمة مؤقتة. ويقودنا ذلك إلى ضرورة البدء الفوري في توفيق أوضاع الضباط الذين سبق فصلهم في عام ٢٠٢٠ وأعادتهم المحكمة إلى الخدمة، حيث يمثل هؤلاء العناصر المدربة والمؤهلة رصيدًا جاهزًا لا يحتاج إلا لإجراءات روتينية لتشغيلهم ودمجهم في القوة.
سادسًا: توفير المعينات الكافية للشرطة:
كما هو معلوم، فقدت الشرطة الكثير من معداتها من عربات وآليات وبنية تحتية ضرورية لأعمالها. لذا لا بد من اهتمام الدولة بهذا الجانب بشكل خاص، لتمكينها من اداء مهامها بكفاءه وفاعليه باعتبار أن الجزء الأكبر من مسؤولية حفظ الأمن والاستقرار بعد الحرب يقع على عاتقها.
سابعًا: تفعيل دور الشرطة المجتمعية:
خلال الفترة السابقة، انتظمت البلاد في استنفار للشباب لإدراكهم بأهمية الأمن وتلقوا تدريبًا عسكريًا. يجب الاستفادة من هذا الحماس في عمليات الأمن المجتمعي تحت مظلة الإدارة العامة للشرطة المجتمعية، وتدريبهم على أعمال الشرطة والقانون لتأمين الأحياء والقرى البعيدة والنائية التي يصعب وصول الشرطة إليها، تحت إشراف الشرطة في دائرة الاختصاص للقيام بعمل وقائي أمني من خلال قربهم بمكوناتهم المجتمعية، وكذلك المساهمة في عمل الأجهزة العدلية الذي أشرنا إليه أعلاه.
ختامًا: تتطلب هذه المرحلة تضافر جهود الأجهزة الأمنية والعدلية بشكل عاجل لتجاوز التحديات الراهنة، المتمثلة في ملف النزلاء، والكم الهائل من البلاغات، وصعوبات الضبط الميداني، والتي ترتكز على الإسراع في تفعيل آليات التنسيق المشتركة، والإسراع في تشكيل المحكمة الدستورية، وتحديث التشريعات، وتوفير الدعم اللازم لقوات الشرطه.
عميد شرطه م
د.ابوبكر على يونس ابراهيم
المحامى
