المندرة نيوز

د.موسى محمد توم الهزيل يكتب.. التصوف في السودان_ بين ميزان الحقيقة وتصور العقل ( 1 : 5 )

الخرطوم=^المندرة نيوز^
يعتبر ظهور الطرق الصوفية في السودان من أهم وأبرز التطورات الدينية والثقافية والسياسية في التاريخ الحضاري لإفريقيا جنوب الصحراء ، وقد لعبت هذه الطرق دورا كبيرا في ترسيخ الإسلام في المجتمع ونشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة ، وربط العلاقة بين دول الغرب الإسلامي ، والوقوف في وجه الاستعمار والتنصير .
وقبل أن نخوض في غمار التصوف في السودان لا بد من التطرق في الحلقة الأولى من هذه السلسلة لتعريف التصوف نفسه حتى يكون مدخلا يمكننا من خوض بحر هذا المسلك الفريد .
يختلف أهل التصوف اختلافا كبيرا في تعريف التصوف ، حيث إن كلا منهم يعبر عن ذوقه وإحساسه الوجداني الخاص به ، فهم يصفون ما يعسر وصفه ولا يتحدثون عن شيء مادي ذي حقيقة موضوعية قابلة للتحديد ، ومن هذه التعريفات أن التصوف لغة مشتقة من صفاء القلوب وأنه مشتق من الصفة أو صفة المسجد ، وهو مكان في مؤخرة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان يجلس إليه متعبدون زهاد من فقراء المسلمين ، وأن اشتقاقه نسبة إلى أولئك الذين يجلسون في الصف الأول بين يدي الله عز وجل ، بارتفاع هممهم إليه ، وإقبالهم بقلوبهم عليه ، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه .
ومن هذه التعريفات أن التصوف نسبة إلى صفوة أو بني صفوة ، وهم قوم كانوا في الجاهلية يخدمون الكعبة ويجهزون الحجيج ، وإنما سموا صوفية للبسهم الصوف .
ويعلل بعض المؤرخين هذه الألفاظ بقولهم : وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف ، فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم ، وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الأخدان ، وساحوا في البلاد وأجاعوا الأكباد ، لم يأخذوا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه من ستر عورة وسد جوعة ، فلخروجهم عن الأوطان سموا غرباء ، ولكثرة أسفارهم سموا سياحين .
أما التصوف كعلم ، فيقول فيه العلامة ابن خلدون : هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم ، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، طريقة الحق والهداية ، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى ، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها ، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه ، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة .
وقيل : هو علم تعرف به أحوال النفس ، محمودها ومذمومها ، وكيفية تطهيرها من المذموم منها ، وتحليتها بالاتصاف بمحمودها ، وكيفية السلوك والسير إلى الله تعالى والفرار إليه .
وخلاصة القول : أن التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي خلال القرن الثالث الهجري ، تدعو إلى الزهد وشدة العبادة تعبيرا عن فعل مضاد للانغماس في الترف الذي كان سائدا آنذاك ، ثم تطور حتى صار حركة منظمة ومدرسة يتخرج فيها الأولياء ، لها قواعدها ورسومها من حيث سيرة المريدين وأخلاقهم وعبادتهم .
ونشأ التصوف نشأة إسلامية حقيقية ، حيث ظهرت بذوره الأولى في نزعات الزهد الموروث من السلف التي سادت العالم الإسلامي بعد عصر الصحابة ، وكان قوامه الانصراف عن الدنيا ومتاعها والعناية بأمور الدين ومراعاة الشريعة .
وكان زهد الزهاد والعباد في هذا القرن معتدلا ، ينهل من الكتاب والسنة وما أثر عن الصحابة والتابعين ، وهذا الزهد ليس رهبنة أو انقطاعا عن الدنيا ، وإنما هو معنى يحقق به الإنسان رغبته الروحية ، ويجعله صاحب نظرة خاصة للحياة الدنيا ، يعمل فيها ويكد ، ولكنه لا يجعل لها سلطانا على قلبه ولا يدعها ولا تصرفه عن طاعة ربه .
وهذا الزهد مستمد من أدب القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، وكان يمد المجتمع بطاقات روحية تعينهم على الحياة ، فلم يكونوا عبادا للمال أو الجاه أو الشهوات .
وهكذا يظهر أن الزهد منهج في الحياة ، قوامه التقلل من ملذات الحياة ، والانصراف إلى الجاد من أمورها .
وقد امتاز الزهد في القرنين الأول والثاني بصدق الورع والتقوى وسلامة الإيمان ، والخشية الشديدة من الله ومن عذاب جهنم ، والأمل الشديد في الحظوة برؤية الله في الدار الآخرة ، وكثرة المناجاة والكلام في الحب الإلهي .
وقد تغلغل الزهد في نفوس المسلمين العامة والخاصة على السواء ، وظهر منهم في القرن الثاني ، أمثال : الحسن البصري المتوفى سنة 110 هجرية وهو المؤسس للفرقة الصوفية بالبصرة ، وإبراهيم بن أدهم البلخي المتوفى سنة 161 هجرية ، وداود بن نصير المتوفى سنة 165 هجرية ، والفضيل ابن عياض المتوفى سنة 186 هجرية ، ومن النساء شيخة العابدات والزاهدات رابعة العدوية التي توفيت سنة 135 هجرية .
وهكذا يمكن القول بأن الزهد كان موجودا في الصدر الأول من الإسلام ، وكان شائعا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لم يصبح ظاهرة متميزة ودعوة لفئة معينة ، ومواجهة لموجة الترف المضادة ، إلا مع نهاية القرن الأول ، واستمر الوضع طوال القرن الثاني الهجري ، ومع مطلع القرن الثالث الهجري ، تحول الزهد إلى التصوف .
ثم نما وازدهر وشاع وانتشر ، وأصبح تيارا روحيا تربويا ينتظم في سلكه الشيوخ والمريدون وطلاب العلم ، ويصدر النظريات والأفكار ، واتخذ عندئذ اسم التصوف عنوانا على صيغته الجديدة ، وصارت الصوفية طائفة أو فئة من المسلمين تتميز عن المتكلمين والمحدثين والفقهاء ، وأمضى التصوف علما يدون ويكتب ويؤرخ مبادئه وتاريخه ، ويشارك في الفكر والحياة العامة .
ثم انتقل التصوف نقلة جديدة من تيار روحي إلى حركة فكرية وفنية واجتماعية واسعة ، وزادت بذلك مشاركتها في الفكر الإسلامي والحياة العامة ، واتخذت مظهرا مركبا في التعبير عن نفسها فنيا وفكريا واجتماعيا .
وعرف مجتمع السودان التصوف الإسلامي المتمثل في التصوف الجنيدي إلى جانب المذهب المالكي كصمام أمان من التيارات والمذاهب المختلفة الأخرى في العقيدة والسلوك ، وكان هذا التصوف الجنيدي أقرب إلى السنة وأسلم من البدعة ، وهو تصوف مستنير بالكتاب والسنة ، معترف به لدى الأئمة المعتبرين في كل عصر .
وقد بدأ بشكل الزهد في الدنيا ، ومع مرور الوقت تحول إلى التصوف خلال القرن الثالث الهجري ، فانتشر في العالم الإسلامي .
ورغم بدايته منذ القرن الثالث الهجري ، فإن فجره لم يبزغ في السودان إلا مع القرن العاشر الهجري أو قبله بقليل ، فكثر معتنقوه على أيدي رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من نشر الدين وعلومه بين الناس ، فأنشأوا طرقا صوفية أطرت خلقا كثيرا حملوا على أنفسهم مسؤولية نشر التصوف في المنطقة ، ويأتي على رأس هذه الطرق القادرية والتيجانية والسمانية .
ومما ينبغي ذكره أن التصوف والطرق الصوفية رغم وجودها في المنطقة منذ القرن العاشر الهجري أو قبله بقليل ، لم تصل أوج ازدهارها إلا مع القرن الثالث عشر الهجري .
والتصوف في السودان يلعب دورًا حيويًا في حياة السكان ، حيث ظهر في وقت مبكر ، وأثر على تطور المجتمعات السودانية ، ولعبت الطرق الصوفية دورًا هامًا في ترسيخ الإسلام ونشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة .
كما ساهم التصوف في قيادة الثورة المهدية ضد الاستعمار البريطاني ، وكان التصوف أساسا وحاكما لدولة سنار في السودان ، وساهم التصوف في بناء المجتمع السوداني وأعمال الخير ، بالإضافة إلى تأثيره على الحياة السياسية العامة .
وفي ذلك الوقت كان من أشهر طرق التصوف القادرية والتيجانية والسمانية والشاذلية ، كما أن بعض الطرق الصوفية مثل الختمية ارتبطت لاحقًا بالسياسة .
ويلعب الصوفية دورًا مهمًا في الصراعات والنزاعات في السودان ، حيث يسعون إلى تحقيق السلام والوحدة والوئام ، ويساهم الصوفية في دعم المجتمعات المحلية بما في ذلك إيواء النازحين وغيرهم وإطعام المحتاجين وذوي السبيل ، وهو يلعب دورًا هامًا في بناء المجتمع السوداني وترسيخ قيم الخير والوحدة والتعايش ، كما يساهم في تعزيز الدين الإسلامي وتعميق العلاقة مع الله وهو جزء لا يتجزأ من الثقافة السودانية ، كما أن له تأثير على الحياة السياسية في السودان ، حيث لعب دورًا في قيادة الثورات والمشاركة في الأحزاب السياسية .

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *