الخرطوم=^المندرة نيوز^
في خضم الأزمة الاقتصادية المستعرة، تبرز قضية “تخفيض الجمارك” كأحد الحلول المقترحة لتخفيف أعباء المعيشة عن المواطن السوداني، وهو طرح لا يخلو من الوجاهة، لكنه يثير تساؤلاً بالغ الأهمية: ما جدوى القرار إن لم يلمس المواطن انخفاضاً في الأسعار؟
لقد شاهدنا في تجارب سابقة كيف تحولت إجراءات مماثلة إلى أرقام على الورق أو وسيلة للتمكين الاقتصادي لطبقات محددة، دون أن تجد طريقها إلى السوق أو إلى الموائد الفارغة في البيوت. وها نحن اليوم نعيد طرح القضية، مدفوعين بالأمل لا بالتجريب الأعمى.
الدكتور كامل إدريس، القانوني والاقتصادي المعروف، يضع النقاط فوق الحروف، قائلاً: سنخفض السلع الاستهلاكية عبر تخفيض الجمارك…..
لا معنى لتخفيض الجمارك إذا لم ينخفض سعر السلعة في السوق. يجب أن نضع رقابة صارمة على سلسلة الإمداد، من الميناء إلى المتجر، حتى لا يُسرق الأثر قبل أن يصل إلى المواطن والسياسة الجمركية لا تُبنى على المجاملة، بل على دراسة متأنية لتأثيراتها على السوق والإنتاج الوطني، فليس من الحكمة تخفيض الرسوم على الكماليات بينما تظل مدخلات الإنتاج الزراعي والصناعي مُثقلة بالضرائب والعقبات.
لقد كانت هنالك تجارب سابقة لأسواق البيع المخفض في عدد من الولايات، لكنها لم تصمد. والسبب لا يعود إلى فكرة السوق نفسها، بل إلى غياب التخطيط، وقصور الشفافية، واعتمادها على الدعم الموسمي أو السياسي لا على منظومة اقتصادية متكاملة.
فما نحتاجه اليوم ليس “خيام بيع مخفض” مؤقتة تُلتقط صورها وتُنسى، بل نحتاج إلى برنامج مستدام يقوم على الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص، وبتنسيق مع جمعيات المستهلكين والمبادرات المجتمعية. نحتاج إلى مجلس للرقابة على الأسعار، تنشر تقاريره للعامة، يُحاسِب ويتابِع ويقيس الأثر الحقيقي.
وكم هو محزن أن تُصدر الحكومة قرارات تقول فيها إنها “خفضت”، بينما السوق يرد بلسان الحال: الأسعار كما هي، وربما ارتفعت!
وقد صدق الشاعر الوطني حين قال:
وما نفع القوانين إن خانها الضميرُ … وما قيمة التخفيض إن خان التاجرُ؟
قال صلى الله عليه وسلم:
“رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى” [متفق عليه]،
فليكن هذا الحديث النبوي شعار المرحلة، نُعيد به الأخلاق إلى الأسواق، والمروءة إلى المعاملات، والعدل إلى السياسات.
ختاماً، فإن قضية تخفيض الجمارك يجب ألا تكون معزولة عن منظومة الإصلاح الاقتصادي الأشمل، وإلا صارت مجرد مسكّن مؤقت لمرض مزمن. الإصلاح الحقيقي يبدأ عندما نشعر أن القرار الحكومي لا يمر عبر الموانئ فقط، بل يصل إلى قلوب الناس وموائدهم ومعاشهم اليومي.
وأنا سأكتب للوطن حتى أنفاسي الأخيرة