المندرة نيوز

مسارب الضي | د. محمد تبيدي يكتب.. توتي تنهض بالضمير.. وتُدين المجـ.ـرم بالحق المبين

الخرطوم=^المندرة نيوز^
حين تطغى آلة الحـ.ـرب على همس النيل، وتتسلل المأساة من بين أزقة الطمأنينة، تنهض جزيرة توتي شاهدة على جُرحٍ لم يُروَ بعد، وملحمة لا يُمكن أن تمر مرور الكرام.. فما فعله أهالي توتي لا يُقاس فقط بمبادرةٍ شعبيةٍ لجمع المنهوبات وردّها لأصحابها، بل يُعد إعلاناً مدوّياً بأن هذه الأرض لا تُباع، وأخلاق أهلها لا تُغتال، وذاكرة الأجيال لا تُغسل بالماء ولا بالنار.

لقد تعرضت جزيرة توتي، تلك الجزيرة الوادعة العزيزة على قلب الخرطوم، لواحدة من أبشع الحملات الانتقامية على يد مليشـ.ـيا آل دقلـ.ـو الإرهابـ.ـية المُتمـ.ـردة علي القـ.ـوات المسلـ.ـحة السودانية. لم تراعِ هذه المليشـ.ـيا حرمة البيوت، ولا عِرض النساء، ولا ضعف الشيوخ، ولا جوع الأطفال. دخلوا الجزيرة دخول غـ.ـزاة لا يعرفون قدسية المكان ولا مكانة الإنسان، فنهـ.ـبوا، وكسروا، ودنسوا، وزرعوا الرعـ.ـب في قلوب الآمنين.

لكن.. حين يكون الموج من ضفاف النيل، يكون الرد من جوف الضمير.

فور انسحابة هذه المليشـ.ـيا من المنطقة، تحرك أهالي توتي في مشهد وطني نادر، لجمع كل ما تم نهبه وسرقته من منازل المواطنين، وحصره بدقة ثم الشروع في إعادته لأصحابه الأصليين وفق إجراءات موثقة، تشمل شهوداً، وقوائم، وتصويراً، وتوثيقًاً أمنياً ومجتمعياً بالغ الدقة. لا قـ.ـوات نظامية، لا مؤسسات رسمية، فقط الضمير الحي، والنخوة المتأصلة في دماء السودانيين.

تُجسد هذه المبادرة أسمى معاني المقاومة المدنية ضد الفوضى الأخلاقية والانحطاط القيمي الذي تسعى مليشـ.ـيا آل دقـ.ـلو إلى تكريسه بالقـ.ـوة والسـ.ـلاح والابـ.ـتزاز. إنها ليست مجرد رد أمانات، بل معـ.ـركة ضد الجريمـ.ـة.. ضد التطبيع مع النهـ.ـب.. وضد تكميم صوت الضحية وإطلاق العنان للجاني.

أهالي توتي لم ينتظروا أوامر من أحد، بل تحركوا بدافعٍ ذاتي، مستمدين من تربيتهم وأخلاقهم وثقافتهم، ما يجعلهم نموذجاً يُحتذى به في كل حي ومدينة وقرية، ويضعون المعيار الواضح للفرق بين أبناء الوطن الحقيقيين، والمرتزقة الطارئين الذين لا يعرفون معنى الأرض والعِرض.

“يا وطني إن لاقيتَ الهمَّ فكن جُبلاً
إن الجبالَ تَصونُ النهرَ من الطُغَمِ”

لقد دخلت مليشـ.ـيا التمـ.ـرد توتي بوحشية لا توصف..
● اقتحمت البيوت الآمنة وسرقت الذهب والممتلكات الشخصية.
● كسرت المحلات التجارية ونهبت محتوياتها، ثم تركتها خاليةً إلا من الألم.
● اعتدت على النساء والأطفال بالتهديد والسلاح.
● استباحت المساجد والمؤسسات الخدمية، حتى أجهزة التبريد والمولدات لم تسلم من نهبهم.
● تمركزت بالقوة في بعض المساكن، وجعلتها مواقع لنهب منظم.
● سجلت شهادات مؤلمة عن السحل والتعذيب والاستهداف العنصري.

كل ذلك يحدث في جزيرة صغيرة، لا تملك من السـ.ـلاح إلا الكرامـ.ـة، ولا من القوة إلا النخوة.. ومع ذلك، فإنها اليوم تُسجل صفحة مضيئة في سفر الوطنية السودانية.

والمبادرون اليوم لا يتفاخرون بما يفعلون، بل يعتبرونه أقل ما يمكن تقديمه لتضميد الجـ.ـراح، ومداواة المكلومين، والرد المباشر على من يسعى لتشويه صورة المواطن السوداني وتحويله إلى لص في خضم الفوضى. وبهذه المبادرة، أسقطوا كذبة أن الحـ.ـرب تبرر الجريـ.ـمة، وأكدوا أن الإنسان السوداني الأصيل لا يُغيره الجوع، ولا يغويه الذهب، ولا تُغريه السرقة.

قال رسول الله ﷺ:
“أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك”
رواه الترمذي، وهو حديث حسن صحيح

هذا الحديث النبوي جسّده أهل توتي فعلاً لا قولاً، فحتى من خانهم ونهبهم، لم يدفعهم ذلك إلى الانتقام أو رد الإساءة بمثلها، بل جابهوا الخيـ.ـانة بالوفاء، والنهب بالإصلاح، والرعب بالتعافي الجماعي.

نعم، إن ما حدث في توتي يرقى لأن يكون درساً وطنياً عظيماً في إعادة بناء السودان من القاعدة الأخلاقية، لا فقط من البنية التحتية. فالأوطان التي تفقد أخلاقها تسقط مهما ارتفعت أبراجها. لكن توتي، بأبنائها، تزرع الآن بذور السيادة الحقيقية.. تلك التي تُبنى بالصدق، والأمانة، والدموع النبيلة.

ولعل أهم ما في هذه المبادرة هو أنها تُدين بشكلٍ غير مباشر كل مَن صمت عن جـ.ـرائم مليـ.ـشيا آل دقلو، وكل مَن روّج لمفهوم أن الحرب تُبيح كل شيء. فهي تفضح أكذوبة “الانفلات التلقائي”، وتُظهر بجلاء أن كل جريمة ارتُكبت كانت فعلًا مقصوداً، وأن التعدي على الممتلكات ليس قدراً بل سلوك مدروس من جماعة مُسلحـ.ـة خارجة عن القانـ.ـون.

وبين أزقة توتي التي تنفض عن نفسها غبار الحـ.ـرب، تسري الآن روحٌ جديدة، تقول للعالم:

نحن السودانيون، لا نُسرق.. ولا نسرق.. وإن سُرِقنا نرد الأمانات ونعيد الحقوق.

وأنا سأكتب للوطن حتى أنفاسي الأخيرة

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *