الخرطوم=^المندرة نيوز^
في زوايا متباعدة من القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، تُروى مآسي الشعوب بلغة واحدة: الجوع. غير أن المجاعة، في هذه السياقات، ليست مجرد كارثة طبيعية أو نتيجة جانبية للحرب، بل أداة ممنهجة تُستخدم في إدارة الصراع وفرض السيطرة وتفكيك المجتمعات. هذا المقال يحاول تفكيك هذا النمط، بالاستناد إلى معطيات موثوقة وتقارير ميدانية، مع قراءة معمقة للروابط بين ما يحدث في غرب السودان، وشمال إثيوبيا، ومقارنة أنماط مشابهة في مناطق أخرى تشهد حصارًا وعزلًا ممنهجًا للسكان.
*أولًا:*
*غرب السودان – أزمة جوع بملامح سياسية*
بحسب تصنيف شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة ( *IPC* )، دخلت عدة مناطق في غرب السودان – خاصة مخيم زمزم في شمال دارفور – مرحلة الجوع الفعلية ( *المرحلة الخامسة* ) بين أغسطس 2024 ومايو 2025. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 24 مليون سوداني يواجهون خطر الجوع الحاد، فيما يُمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق واسعة بفعل انتشار مليشيا الدعم السريع على طرق الإمداد.
اللافت أن هذا الحرمان الغذائي لا يبدو عشوائيًا. فعمليات نهب المزارع، وتدمير الحصاد، والاستيلاء على قوافل الغذاء، إلى جانب استهداف الأسواق المحلية والبنية الصحية، تكشف عن نمط ممنهج من الحصار الاقتصادي والاجتماعي، يهدف إلى إخضاع المجتمعات المحلية وتهجيرها قسرًا.
الكاتب والفيلسوف الفرنسي *برنار-هنري ليفي* ، الذي زار السودان مؤخرًا، وصف الأمر بوضوح:
“ *ما يجري ليس مجرد فوضى أو تنازع بين جنرالات، بل مشروع سياسي لبناء ما أسماه دولة مهرّبة، تُباع لجهات خارجية على حساب حضارة السودان العريقة* .”
وأضاف في حديثه على قناة BFM TV أن ما تقوم به عصابة الدعم السريع هو “ *إرهاب كلاسيكي على طريقة داعش والقاعدة* .”
*ثانيًا:*
*شمال إثيوبيا – المجاعة بوصفها أداة حرب*
ما بين 2020 و2022، ارتكبت القوات الإثيوبية والإريترية في إقليم تيغراي ممارسات تم توثيقها كـ” *جرائم ضد الإنسانية* ” من قبل عدة جهات حقوقية دولية، منها جامعة ييل.
تضمنت هذه الممارسات: حصارًا غذائيًا شاملًا على مناطق مدنية، ومصادرة المحاصيل، ومنع المزارعين من الزراعة، واستخدام العنف الجنسي المنهجي كأداة لإذلال المجتمعات، إلى جانب منع دخول المساعدات وفرض قيود على المنظمات الإنسانية.
وبحسب تقرير لمنظمة *Global Rights Compliance* في يوليو 2025، فإن هذه الممارسات أدت إلى وفاة مئات الآلاف جوعًا، وخلّفت أكثر من 4 ملايين طفل يعانون من سوء تغذية حاد. وقد وصف التقرير ذلك بأنه “ *استخدام المجاعة كسلاح حرب* ”، وهي جريمة يحظرها القانون الدولي الإنساني…
*ثالثًا:*
*وحدة النمط في الصراعات المعاصرة – بيئات الحصار والتجويع*
يبرز تشابه لافت بين الحالات المدروسة في السودان وإثيوبيا، ونماذج أخرى في مناطق خاضعة للحصار في العالم، حيث يُستخدم التجويع بشكل ممنهج كسلاح ضد المدنيين.
ففي السودان، تقوم مليشيا الدعم السريع بفرض حصار على الأسواق وطرق الإمداد، وتنهب المحاصيل وتمنع المساعدات من الوصول، مما أدى إلى تفشي المجاعة في مناطق واسعة من دارفور وكردفان.
وفي شمال إثيوبيا، فرض الجيشان الإثيوبي والإريتري حصارًا شاملًا على إقليم تيغراي، صودرت خلاله المحاصيل الزراعية ومُنع وصول الغذاء والدواء، في محاولة لإخضاع السكان سياسيًا وعرقيًا.
وتُظهر مراجعة تقارير *IPC* ومصادر دولية أخرى أن هذه الأنماط لا تقتصر على إفريقيا، بل تظهر بوضوح في مناطق أخرى خاضعة لعقوبات أو حصارات معزولة، حيث تؤدي القيود المفروضة على حركة المساعدات والغذاء إلى حالات وفاة جماعية، وانهيار في الخدمات الصحية، وحرمان المجتمعات من شروط الحياة الأساسية، في ظل صمت دولي أو تغطية إعلامية جزئية.
وهذا ما يؤكد أن الجوع لم يعد مجرد عارض جانبي للصراع، بل يُعاد إنتاجه كآلية ضغط منظّمة لتشكيل الواقع الديمغرافي والسياسي…
*رابعًا:*
*صمت المجتمع الدولي… وتناقض المواقف*
تساءل برنار-هنري ليفي في لقائه الأخير:
“ *كيف يُترَك شعب يعاني بهذا الشكل دون تغطية إعلامية أو موقف دولي حازم؟* ”
في إشارة إلى الصمت الفرنسي والأنجلوساكسوني تجاه ما يحدث في السودان.
نفس الصمت رافق مجازر تيغراي، وتم توثيقه في مواقف عديدة تجاه مناطق أخرى تُعاني من المجاعة والحصار.
وهنا، تتجلّى الازدواجية الأخلاقية في تعامل المجتمع الدولي، الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان، لكنه يتجاهل تجويع شعوب كاملة حين يتعارض ذلك مع حساباته الجيوسياسية أو مصالح حلفائه…
*خامسًا:*
*_التوصيات والإشارات الاستراتيجية_*
1. اعتبار التجويع المتعمد جريمة حرب حين يُستخدم كوسيلة ضغط أو عقوبة جماعية…
2. فصل العمل الإنساني عن السياسات الدولية، وضمان وصول الإغاثة للمناطق المتأثرة دون عراقيل…
3. إجراء تحقيقات دولية مستقلة في ملفات السودان وإثيوبيا والمناطق الخاضعة للحصار الغذائي…
4. محاسبة الجهات التي تموّل أو تساهم في إطالة أمد هذه المآسي، بما في ذلك الأطراف التي تدعم الفاعلين المسلحين الذين يعيقون المساعدات أو يستخدمون الغذاء كسلاح…
*خاتمة*
إن ما يحدث في غرب السودان، وشمال إثيوبيا، وفي مناطق أخرى تُعاني تحت الحصار والصمت، ليس مجرد سلسلة من الأزمات المنفصلة، بل تجسيد لنمط عالمي خطير يُعاد تدويره في سياقات متعددة: حرب عبر التجويع، وقتل بالصمت، وتفكيك ممنهج للمجتمعات.
وما لم يتحرك الضمير العالمي بشكل عاجل، فإن الجوع لن يبقى مجرد وسيلة للسيطرة، بل سيصبح أداة إبادة منسية، تُمارَس بأيدي بشر، وتُراقَب بأعين العالم… دون ردع…
تمت الكتابة استنادًا إلى تقارير شبكة IPC، والصحف الدولية (واشنطن بوست، فاينانشال تايمز، الغارديان)، وشهادات ميدانية من تقرير برنار-هنري ليفي على قناة BFM TV…
*وطن و مؤسسات…*
*السودان أولا و أخيراً…..*
*د. عبدالعزيز الزبير باشا…*
*3/8/2025*