الخرطوم=^المندرة نيوز^
انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية أول أمس بسيل من التفسيرات المتباينة لقرار الفريق إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة ورئيس لجنة إعادة الإعمار، القاضي بوقف صيانة المباني الحكومية في ولاية الخرطوم.
فبين من اعتبره إجراءً إداريًا يندرج ضمن مساعي الحوكمة والشفافية وضبط الأداء، ومن رآه انعكاسًا لأزمة مالية ، غاب – للأسف – عن معظم النقاشات بُعدٌ ثالث مهم جدا : هل يمثل القرار تحوّلًا في نظرة الدولة إلى موقع ووظيفة العاصمة؟
وهل بتنا نقترب من رؤية استراتيجية يُعاد فيها بناء الخرطوم كهوية بصرية وسياسية ومعمارية، تستلهم التاريخ وتستشرف ملامح السودان الحديث؟
في تقديري، لا يبدو القرار من حيث توقيته ومضمونه مجرد إجراء إداري، بل يعكس تحولًا ذهنيًا في إدارة الدولة السودانية لملف العاصمة القومية .
فوقف الصيانة لا يُقرأ فقط من منظور الترشيد المالي أو تجنب الهدر في منشآت متضررة أو غير صالحة، بل يُفهم في سياق مشروع طموح لتأسيس “خرطوم جديدة”، تضاهي العواصم الكبرى، مستفيدة من موقعها المثالي على ضفاف النيلين.
التحدي هنا لا يقتصر على بناء هياكل إسمنتية أو مؤسسات خدمية، بل يتعداه إلى التفكير في المعنى المنتبه للعاصمة، بوصفها مركزًا للقرار الوطني، ووجهةً ثقافية وتاريخية ، ومجالًا يعكس طبيعة السلطة ونمط الدولة الحديثة.. بجانب الحضارة السودانية .
ومن الخطأ اختزال القرار في نقاشات حول عطاءات الصيانة أو شُبهات الفساد وغياب الشفافية، فالقضية سياسية بامتياز، تتصل بإرادة تأسيس عاصمة تتجاوز الإرث الاستعماري والارتجال الإداري، نحو فضاء مدني حديث، متناغم مع السياقات الإقليمية والمعمارية، وقادر على تمثيل السودان في المحافل الدولية.
لقد أفرزت الحرب، رغم سوءها فرصة نادرة لإعادة التفكير في البنية المكانية للدولة. فالمساحات المدمّرة والمهجورة قد تشكّل منصات لانطلاقة جديدة، نحو تخطيط عمراني يتجاوز الازدحام و العشوائية التي ظللنا نعاني منها ، ويعيد تشكيل مركز العاصمة وتوزيع الوظائف المدنية والسيادية على نحو مبتكر تتجلى خلاله المظاهر الابداعية الراقية.
ومن هذا المنطلق يمكن قراءة القرار الأخير كإشارة مبكرة لانتقال السودان من مرحلة الترميم إلى مرحلة التأسيس والانتقال .
ويبدو أن الفريق جابر، من موقعه على رأس اللجنة العليا لتهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين إلى الخرطوم، يتبنى رؤية تتجاوز فكرة الصيانة باعتبارها عبئًا ماليًا لا يضيف جديدًا، نحو مشروع بناء حديث، بطراز معماري مستند إلى فكرة، وبعقلية جديدة وذائقة جمالية مدروسة.
في هذا السياق، تستحق تجربة كيغالي، عاصمة رواندا، أن تُستدعى كنموذج ملهم. فقد خرجت المدينة من واحدة من أبشع الإبادات الجماعية عام 1994، وكانت حينها متواضعة ومهمّشة، لكنها تحولت خلال عقدين فقط إلى واحدة من أنظف وأكثر العواصم تنظيمًا في إفريقيا.
لم يكن ذلك بفضل الإرادة السياسية وحدها، بل عبر رؤية عمرانية شاملة، دمجت متطلبات المصالحة الوطنية مع تخطيط حضري عصري يعكس كرامة الإنسان الرواندي ومكانته.
تجربة كيغالي تقدم سابقة قابلة للتكرار في الخرطوم، إذا ما استُثمرت هذه اللحظة الانتقالية الحاسمة ليس عبر موازنات ضخمة فقط، بل بكسر النمطية في التفكير، واستدعاء الكفاءات الوطنية في العمارة والتخطيط والهوية البصرية للدولة.
فالتحدي الحقيقي لا يتمثل في إعادة إعمار ما تهدّم، بل في إعادة تعريف ما يجب أن يكون. وعلى المعماريين والمخططين السودانيين أن يتقدموا الصفوف لابتكار “الخرطوم الجديدة” على أسس جمالية ووظيفية متينة، تدمج بين رمزية الدولة الحديثة ومطالب المواطن بالخدمات والكرامة.
بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة نقول:
هل يتحول هذا القرار إلى نقطة انطلاق حقيقية في علاقة السودانيين بعاصمتهم؟ وهل نشهد أخيرًا ميلاد مدينة لا تستحي من استقبال القادمين، ولا تتوارى عن استضافة القمم والمؤتمرات؟ ربما آن الأوان لنحلم بخرطوم تليق بنا، لا نلجأ فيها إلى بيوت الأثرياء في المناسبات الوطنية لاستضافة الوفود، بل نفتخر بمؤسساتها الرسمية ومبانيها العامة الأنيقة، كما تفخر الأمم بعواصمها.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 6 أغسطس 2025م