المندرة نيوز

د. عبدالعزيز الزبير باشا يكتب.. السودان: من رماد الحرب إلى ريادة القرن الإفريقي

الخرطوم=^المندرة نيوز^
ورقة سياسات استراتيجية للنهضة الاقتصادية السودانية
تمهيد
بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام من حرب مدمّرة عاش فيها السودان أخطر تحدٍ في تاريخه الحديث، لم تنكسر إرادة شعبه ولم تنهار مؤسساته. ورغم الخراب والدمار الذي أصاب البنية التحتية وتوقف قطاعات رئيسية عن العمل، بقيت روح الصمود السودانية قادرة على إنتاج بدائل والتعافي من الداخل. هذه الروح، مقرونة بموارد طبيعية هائلة وموقع استراتيجي فريد، تضع السودان اليوم أمام لحظة فاصلة: إما الاكتفاء بدور الدولة المنكفئة على لملمة جراحها، أو التحرك الجريء ليتبوأ مكانته كـالاقتصاد القائد في القرن الإفريقي والمحور الذي تُبنى عليه معادلات التنمية والاستقرار في المنطقة.

إن التحدي المطروح أمام القيادة السياسية ليس سؤال الإمكان، بل سؤال الإرادة. فالإمكانات متوافرة، والموارد حاضرة، والشعوب المجاورة بحاجة ماسّة لشريك قوي يعيد صياغة التوازن الاقتصادي الإقليمي.

1. السودان مركز التوازن في القرن الإفريقي
يمثل الموقع الجغرافي للسودان ميزة استراتيجية نادرة. فهو يتوسط بين المشرق العربي والعمق الإفريقي، ويطل على البحر الأحمر الذي يعد شريان التجارة العالمية، كما يمتد جغرافياً ليكون بوابة طبيعية إلى أسواق إفريقيا الوسطى والشرقية.

هذا الموقع يتيح للسودان أن يصبح محوراً لوجستياً لنقل البضائع، لا سيما في ظل التنافس الدولي على ممرات التجارة وسلاسل الإمداد. تطوير الموانئ البحرية في بورتسودان وربطها بشبكة سكك حديدية وطرق حديثة تصل إلى تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى سيجعل من السودان مركز عبور إجباري لكل تجارة الإقليم. هذه ليست رفاهية بل ورقة قوة تفاوضية تمنح السودان موقعاً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة اقتصادية أو سياسية تخص القرن الإفريقي.

2. السودان وسلة الغذاء الإقليمية
العالم يعيش اليوم أزمة غذاء عالمية متصاعدة، ومعها تتزايد أهمية الدول القادرة على الإنتاج الزراعي الواسع. السودان يملك أكثر من 175 مليون فدان صالحة للزراعة، منها نسبة ضئيلة فقط مستغلة. كما يمتلك مصادر مياه متنوعة من النيل وفروعه إلى المياه الجوفية والأمطار الموسمية.

في وقت تستورد فيه دول الجوار الأساسية—مثل إثيوبيا وإريتريا والصومال وجنوب السودان—جزءاً كبيراً من غذائها، يمكن للسودان أن يتحول إلى مخزن الغذاء للإقليم. ليس على مستوى المحاصيل التقليدية فحسب (كالقمح والذرة والقطن)، بل أيضاً عبر إدخال زراعات استراتيجية عالية القيمة مثل فول الصويا ودوار الشمس وقصب السكر.

هذا الدور يمنح السودان ورقة ضغط إقليمية تعادل الذهب والنفط، ويجعل أي استقرار غذائي في القرن الإفريقي مرهوناً بتفعيل الإنتاج الزراعي السوداني.

3. التعدين والذهب: من تصدير خام إلى صناعة متكاملة
لطالما كان الذهب هو الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد السوداني في الأزمات، لكنه ظل رهينة التصدير الخام وفاقداً لأغلب قيمته المضافة. اليوم، آن الأوان للانتقال من اقتصاد الذهب الخام إلى اقتصاد الذهب المصنع.

هذا يتطلب إنشاء مصافي حديثة وتشجيع صناعة المجوهرات والمعادن النفيسة وربطها بالأسواق الخليجية والأفريقية. كما يجب تنظيم التعدين الأهلي العشوائي وتحويله إلى نشاط رسمي يدر الضرائب ويخلق وظائف. إن الاستثمار الذكي في قطاع التعدين سيجعل الذهب السوداني عملة صلبة وطنية بدلاً من كونه مجرد مورد سريع التبخر في الأسواق العالمية.

4. النفط والغاز والطاقة المتجددة: نحو استقلال اقتصادي
رغم ما أصاب قطاع النفط من تحديات أمنية في مناطق الإنتاج، فإنه لا يزال يمثل ركيزة أساسية. المطلوب هو إعادة هيكلة الشركات الوطنية وتحديث البنية التحتية وتوسيع الشراكات مع دول صديقة تمتلك الخبرة التقنية والتمويل.

في المقابل، لا يجب أن يقتصر التفكير على النفط وحده. فالسودان يمتلك إمكانات هائلة في الطاقة الشمسية والرياح خصوصاً في شمال البلاد وغربها، إضافة إلى الطاقة الكهرومائية. الاستثمار في هذه المجالات سيجعل السودان ليس فقط مكتفياً ذاتياً من الكهرباء، بل مصدراً للطاقة للإقليم.

توفير الكهرباء المستقرة هو الشرط الأول لنهضة الصناعة والزراعة والخدمات، ومن دونه لا يمكن بناء اقتصاد متماسك.

5. البحر الأحمر: الاقتصاد الأزرق كرافعة استراتيجية
يمتلك السودان أكثر من 700 كيلومتر من السواحل على البحر الأحمر، وهو شريان عالمي يمر عبره نحو 12% من تجارة العالم. ومع ذلك، لم يتم استغلال هذا الشريط الساحلي بالشكل المطلوب.

تطوير موانئ بورتسودان وسواكن وإنشاء مناطق حرة صناعية وتجارية يمكن أن يحول البلاد إلى مركز تجارة إقليمي ينافس موانئ جيبوتي وإريتريا. كما أن الاستثمار في الثروة السمكية والاقتصاد الأزرق (مثل تربية الأحياء البحرية والطاقة البحرية) سيضيف بعداً استراتيجياً جديداً.

البحر الأحمر ليس مجرد منفذ بحري، بل ساحة نفوذ دولي، ومن يمتلك قدرة تشغيلية فيه يمتلك جزءاً من معادلة القوة في المنطقة.

6. رأس المال البشري: المورد الأكثر قيمة
الحروب تستنزف البشر قبل الحجر، لكن السودان لا يزال يحتفظ بثروة بشرية شابة وواعية. أكثر من 60% من السكان تحت سن الثلاثين، ما يعني أن السودان بلد شاب يمكن أن يتحول إلى ورشة عمل إقليمية.

لكن هذه الطاقة تحتاج إلى توجيه. المطلوب هو إصلاح التعليم، خصوصاً التعليم التقني والمهني، وربط الجامعات بالقطاع الخاص بحيث يكون الخريجون جاهزين لسوق العمل. كذلك يجب تحفيز عودة الكفاءات السودانية في الخارج عبر حوافز استثمارية ومهنية، فالمغترب السوداني أثبت أنه رافعة مالية عبر التحويلات، ويمكن أن يكون رافعة تنموية عبر نقل الخبرة.

7. التعافي من الداخل: دروس الحرب
لقد أثبتت تجربة السنوات الثلاث أن السودان قادر على التعافي بموارده الذاتية بعيداً عن الارتهان للمعونات الخارجية المشروطة. خلال الحرب اعتمد الناس على الزراعة المحلية، وعلى شبكات التجارة الداخلية، وعلى تحويلات المغتربين. هذا النموذج يؤكد أن البناء من الداخل أكثر استدامة من الاعتماد على الخارج.

المطلوب اليوم هو تعزيز هذا المسار عبر دعم القطاع الخاص، وإصلاح الجهاز المصرفي ليكون قادراً على تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الصناعات الوطنية لتقليل الاستيراد.

8. التكامل الإقليمي: السودان محور لا تابع
ريادة السودان الاقتصادية في القرن الإفريقي لا تعني الانغلاق، بل تعني الانفتاح المشروط. أي شراكة اقتصادية مع دول الجوار يجب أن تنطلق من قاعدة أن السودان ليس تابعاً بل محوراً، وأن استقراره الاقتصادي يصب في استقرار الإقليم بأكمله.

بناء تكتلات اقتصادية إقليمية والتفاوض الجماعي على مشروعات البنية التحتية والطاقة والنقل سيمنح السودان وزناً تفاوضياً أكبر ويجنبه الوقوع فريسة للابتزاز الدولي.

*خاتمة: السودان لحظة الحقيقة*
إن اللحظة التاريخية الراهنة تضع السودان أمام خيارين: إما أن يبقى دولة مثقلة بجراح الحرب تبحث عن الفتات من موائد المانحين، أو أن يتحرك بثقة ليصبح الاقتصاد المحوري للقرن الإفريقي، يفرض نفسه لاعباً أساسياً في معادلات الأمن الغذائي والطاقة والتجارة الإقليمية.

هذا التحول لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى إرادة سياسية صلبة وإصلاح مؤسسي شجاع واستثمار استراتيجي في الموارد والبشر. إذا تحقق ذلك، فإن السودان لن ينهض وحده، بل سيجر معه الإقليم بأكمله نحو مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار.

*د. عبد العزيز الزبير باشا*
*متخصص في إدارة المخاطر الاقتصادية والإستراتيجية

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *