الخرطوم=^المندرة نيوز^
في عالم تتصارع فيه الرؤى وتتزاحم النماذج، يطل علينا الكاتب الأمريكي من أصل صيني دان وانغ بكتابه الاستفزازي “Breakneck: China’s Quest to Engineer the Future” ليقدم تشريحاً ثاقباً للصراع الحضاري بين عملاقين، لا عبر مقارنات اقتصادية وسياسية تقليدية، بل من خلال الغوص في الأعماق الفكرية التي تتحكم بمصير الأمم.
عقلية المهندس: عندما تتحول الأمة إلى آلة دقيقة..
تتبدى الصورة الأكثر إثارة في الكتاب عندما يحلل المؤلف الخلفيات الأكاديمية للنخبة الحاكمة في الصين، حيث يهيمن المهندسون وخريجو العلوم التطبيقية على مراكز صنع القرار. هذه السيطرة ليست مجرد صدفة إحصائية، بل هي تعبير عن رؤية فلسفية عميقة ترى في إدارة الدولة مسألة تقنية بحتة، يمكن معالجتها بالمنطق الرياضي والهندسي.
هكذا تتحول الصين إلى ورشة عمل ضخمة، حيث تُحل المشكلات المعقدة بمنطق المعادلات، وتُصمم السياسات كدوائر إلكترونية متكاملة، وتُنفذ المشاريع بكفاءة الآلات المسيّرة. لا عجب أن نشهد معجزة الصين في بناء المدن الذكية، وشبكات القطارات فائقة السرعة، والتفوق التكنولوجي، كلها تتحقق بسرعة مذهلة تذكرنا بدقة الساعات السويسرية.
لكن هذه العقلية الهندسية لا تخلو من ثمن، فكما تلاحظ في خط سكة حديد فائق السرعة، لا يوجد مسار للعودة أو تعديل الاتجاه بسهولة. المرونة والانفتاح على التعددية الفكرية قد يضحيان في مذبح الكفاءة والإنجاز.
عقلية المحامي: عندما تتحول الدولة إلى ساحة قضاء..
في الجانب الآخر من المحيط، ترسم الولايات المتحدة لوحة مختلفة تماماً. هنا يحكم المحامون، ليس فقط بأعدادهم الطاغية في الكونجرس والمحاكم، بل أيضاً بعقلية المواجهة القضائية التي تسري في عروق النظام. كل قرار يصبح قضية، وكل سياسة تتحول إلى محاكمة، وكل مبادرة تتعثر في متاهات الدعاوى القضائية.
هذه العقلية القانونية أنتجت نظاماً ديمقراطياً صلباً يحمي الحريات الفردية، لكنه في الوقت نفسه يعيق القدرة على الإنجاز السريع. مشاريع البنية التحتية تتأخر لعقود، والابتكارات التقنية تتعثر في جدالات لا تنتهي، والسياسات الكبرى تتحول إلى رهائن لمعارك حزبية وقانونية.
المقارنة التقنية: من يربح سباق المستقبل ؟
يقدم الكتاب أدلة ملموسة على تفوق النموذج الصيني في المجالات التكنولوجية الحيوية. في الذكاء الاصطناعي، تتصدر الشركات الصينية أبحاث التطبيقات العملية. في الاتصالات، تفوقت الصين في نشر شبكات الجيل الخامس. في الطاقة المتجددة، تتفوق الصين بمعايير مذهلة في بناء المحطات الشمسية والرياحية.
حتى في مجال التسلح، الذي ظل لقرون الحصن المنيع للتفوق الأمريكي، يظهر التآكل. مشاريع الأسلحة الأمريكية أصبحت رمزاً للتأخير والتكاليف الباهظة، بينما تنتج الصين كميات هائلة من السفن الحربية والطائرات المقاتلة بسرعة وكفاءة.
العبرة: دورة الحضارات وتداول الأيام..
وفي ختام هذا السرد، نقف متأملين دروس التاريخ التي يذكرنا بها المؤلف. لطالما تداولت الأمم أدوار القيادة، وتناوبت الحضارات على صدارة المشهد الإنساني. من الرومان إلى الفرس، من العباسيين إلى العثمانيين، من البريطانيين إلى الأمريكيين، كل إمبراطورية أتت بدورها، وكل حضارة سطع نجمها ثم أفل.
اليوم، ونحن نعيش مفترق طرق التاريخ، يبدو أن البوصلة تتجه شرقاً. الصين، بعقلية المهندس الدقيق، تخطو بثبات نحو ريادة القرن الحادي والعشرين، بينما تترنح أمريكا، بروح المحامي المثيرة للجدل، تحت وطأة الخلافات الداخلية والصراعات القانونية.
بعد اخير :
خلاصة القول، الحكمة تكمن في تذكر أن دورة الحضارات لا تتوقف عند حدود الجغرافيا، وأن عجلة التاريخ لا ترحم المتخلف عن ركبها. السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: هل ستتعلم الأمم من دروس الماضي؟ وهل ستستيقظ من سباتها قبل فوات الأوان؟.. واخيراً، في النهاية، يبقى المستقبل ساحة مفتوحة للإبداع والإرادة، حيث لا يوجد مكان للضعفاء، ولا رحمة للمتخلفين. فإما أن نصنع المستقبل، أو نكون مجرد مشاهدين على هامش التاريخ… و نواصل إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..
ليس لها من دون الله كاشفة
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين
#البعد_الاخر | مصعب بريــر |
الثلاثاء (7 اكتوبر 2025م)