الخرطوم=^المندرة نيوز^
يُعد مشروع النيل الأزرق الصحي واحداً من أكثر التجارب الصحية تكاملاً في تاريخ السودان الحديث، بل وفي القارة الإفريقية عمومًا. أُنشئ المشروع في أواخر سبعينات القرن الماضي ليكون نموذجاً للتنمية الصحية المتكاملة في مناطق الري بوسط السودان، خاصة في ولايتي الجزيرة والنيل الأزرق، حيث كان الهدف الأساسي منه مكافحة أمراض المياه والنواقل التي تهدد صحة المجتمعات الزراعية مثل البلهارسيا والملاريا.
اعتمد المشروع على مقاربة علمية مبتكرة عُرفت آنذاك باسم النهج المتكامل للصحة العامة، إذ جمع بين تحسين شبكات المياه والصرف الصحي، ومكافحة النواقل عبر الرشّ بالمبيد ذو الأثر المتبقى (IRS) وتوزيع الناموسيات، إلى جانب برامج التعليم والتثقيف الصحي والعلاج الجماعي الدوري باستخدام عقار “البرازيكوانتل”. كما نسّق المشروع بين وزارات الصحة والزراعة والري، مدعوماً بتمويل من منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، مما جعله من أضخم مشاريع الصحة العامة في إفريقيا في تلك الحقبة.
وقد حقق المشروع خلال عقده الأول نتائج مذهلة؛ إذ أظهرت الدراسات الميدانية انخفاض معدلات الإصابة بالبلهارسيا في مناطق المشروع من أكثر من 50% إلى أقل من 6%، كما انخفضت معدلات الملاريا إلى أدنى مستوياتها خلال الثمانينات. واعتُبر مشروع النيل الأزرق الصحي حينها نموذجاً يحتذى به في الجمع بين التنمية الزراعية والصحة الوقائية، وجرى تقديمه في مؤتمرات علمية كواحدة من أنجح التجارب الإفريقية في السيطرة على الأمراض المدارية.
غير أن هذا النجاح لم يدم طويلاً. فمع بداية التسعينات، بدأ المشروع يواجه أزمات تمويلية وإدارية حادة عقب انسحاب بعض الجهات المانحة وتراجع الميزانيات الحكومية، ثم تلت ذلك اضطرابات سياسية وصراعات مسلحة في ولايات النيل الأزرق وسنار والقضارف عطّلت العمل الميداني تماماً. كما أدى غياب آليات الصيانة والاستدامة إلى انهيار البنية الأساسية للمشروع، وتراجع حملات مكافحة النواقل والتثقيف الصحي، مما مهّد الطريق لعودة الأوبئة بصورة أكثر شراسة.
وفي العقدين الأخيرين، كشفت تقارير منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة السودانية عن عودة معدلات الملاريا والبلهارسيا إلى مستويات تنذر بالخطر؛ إذ تُقدّر حالات الملاريا سنوياً بأكثر من مليون إصابة مؤكدة، فيما ظهرت بؤر جديدة للبلهارسيا في مناطق كانت قد أُعلنت خالية منها سابقاً. كما شهدت البلاد خلال السنوات الأخيرة موجات متكررة من حمى الضنك والشيكونغونيا، مدفوعة بتدهور نظم الصرف الصحي وتكاثر البعوض في بيئات الريّ غير المنظم.
تشير المقارنات مع دول إفريقية أخرى — مثل تنزانيا وأوغندا — إلى أن البرامج التي نجحت في القضاء المستدام على البلهارسيا والملاريا كانت تلك التي استثمرت في المجتمعات المحلية وبنت نظاماً صحياً مرناً يعتمد على التمويل الوطني والتخطيط الصحى البيئي السليم، لا على الدعم الخارجي وحده. في المقابل، ظل مشروع النيل الأزرق الصحي مثالاً على الفشل في التحول من النجاح المؤقت إلى التنمية المستدامة بسبب ضعف الحوكمة الصحية واعتماد الدولة على دعم المانحين دون بناء بدائل داخلية.
بعد اخير :
خلاصة القول، إنّ تجربة مشروع النيل الأزرق الصحي تمثل درساً مؤلماً في أن النجاح الصحي لا يُقاس بالإنجازات المرحلية، بل بالقدرة على الاستدامة. انهيار المشروع لم يكن مجرد إخفاق إداري، بل كارثة صحية أعادت أمراضاً مهلكة إلى الواجهة، وحصدت أرواح آلاف السودانيين. وإذا لم تُبادر الدولة اليوم إلى إصلاح نظامها الصحي وتبني استراتيجية وطنية متكاملة للوقاية ومكافحة الأمراض المائية، فإنّ التاريخ سيعيد نفسه، وربما بأثمانٍ أفدح كما نرى الان في ظل تغيّر المناخ وتدهور البيئة.. واخيراً، الرسالة واضحة: الصحة ليست مشروعاً مؤقتاً، بل عقدٌ دائم بين الدولة والإنسان، إن انهار.. انهارت معه الحياة… و نواصل إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..
ليس لها من دون الله كاشفة
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين
#البعد_الاخر | مصعب بريــر |
الاربعاء (8 اكتوبر 2025م)