الخرطوم =^المندرة نيوز^
في تاريخ الأمم ثمة لحظات تتجاوز كونها مجرد أحداث سياسية، لتغدو محطات مهمة في تشكّل الوعي الجمعي، وتحديد معالم المستقبل. هكذا كانت ثورة 21 أكتوبر 1964 في الذاكرة السودانية؛ لم تكن فقط انتفاضة شعب ضد نظام عسكري، بل كانت إعلاناً بأن الشعب السوداني يمتلك وعياً سياسياً متقدماً، وإرادة متجذرة في كراهية الاستبداد، ورفض التبعية.
في أكتوبر الثورة قدم السودان نفسه للعالم كأمة واعية ، لا تقبل الخضوع لحكم الفرد أو الهيمنة الخارجية. ولم تكن هذه الثورة مجرد فورة شعبية، بل ثمرة تنظيم دقيق قادته النقابات المهنية والطلابية، والنخب السياسية مجتمعة والتي تلاقت على مبدأ: الوطن الحر غير المرتهن.
غير أن المقارنة بين ثورتي أكتوبر 1964 وديسمبر 2019 تكشف تباينًا صارخًا بين من حمل مشروع دولة، ومن استند إلى خطابٍ فوضوي حالمٍ بلا مضمون سياسي. فبينما أفرزت الأولى حكومةً انتقالية بتوافقٍ وطنيّ حقيقي، سقطت الثانية في فخّ التصنيفات الأيديولوجية الحادّة، وانقسمت النخبة السياسية إلى قوى مرتبكة لا تُجيد سوى خطاب الكراهية، ومؤسسةٍ عسكرية تبحث عن مخرجٍ آمن للبلاد لتخرج نفسها من مأزقها التاريخي.
تحوّلت ثورة ديسمبر إلى ساحة صراع بين مشاريع خارجية متنازعة، أُفرغت من مضمونها الوطني، وغدت أداةً في لعبةٍ إقليمية معقّدة أدخلت البلاد في أتون الحرب.
ما جرى بعد 2019 ليس مجرّد فشل نخبٍ في إدارة مرحلةٍ انتقالية، بل نتيجة مباشرة لتحوّل السودان إلى ميدان اختبارٍ لمفهوم “الهيمنة الناعمة”، إذ لم تعد السيطرة تُمارس بالاحتلال المباشر، بل عبر أدواتٍ أشدّ فتكًا: الدعم المشروط، الضغوط السياسية، المنظمات الداعمة ، والسفارات التي تجاوزت حدود الأعراف الدبلوماسية لتفرض نفسها في الحياة السياسية.
فالرباعية الدولية – الولايات المتحدة، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات – لا تتحرّك بدافع الحرص على مستقبل السودان، بل انطلاقًا من رؤى استراتيجية ترى فيه معبرًا للمصالح الخاصة ومسرحًا لتقاطع النفوذ في أفريقيا و منطقة البحر الأحمر و القرن الإفريقي.
وبهذا المعنى، فإن ما يُقدَّم كدعمٍ سياسي أو وساطةٍ دولية، ليس سوى عمليةٍ لإعادة صياغة دور الدولة السودانية ضمن نظامٍ إقليميٍّ جديد، يُراد له أن يُبقي السودان دولةً هشّة، تابعة بلا إرادة تؤدي وظيفةً محدّدة دون أن تكون فاعلةً في محيطها الإقليمي والدولي أو حتي في تقرير مصيرها.
لقد انتصرت ثورة أكتوبر على الاستبداد الصريح، لكنّ التحدي اليوم أكثر تعقيدًا وخفاءً، إذ تقف البلاد أمام استعمارٍ جديد بأدواتٍ ناعمةٍ تتزيّا بلبوس “الدعم الدولي”، وتخفي مشروعَ هندسة بائسة لإعادة انتاج سودان بلا سيادة.
ربما الأخطر من التمويل والتدخّل المباشر هو إعادة صياغة المفاهيم السياسية نفسها. فلم تعد السيادة تعني القرار الوطني المستقل، بل غدت مشروطةً برضا “المجتمع الدولي”. ولم تعد الديمقراطية استحقاقًا شعبيًا، بل مساومةً تُدار في الغرف المغلقة. وأصبح ما يُسمّى بـ”الإجماع الوطني” يُعاد تعريفه باعتباره “توافقًا دوليًا” يُصاغ في الخارج في عنتبي وبروكسل أو أبوظبي لا في البرلمان السوداني أو مراكز القرار الوطني.
تحوّلت السيادة الوطنية إلى سلعةٍ تُتداول في المفاوضات، وانشغلت النخب السياسية برضا السفارات أكثر من انشغالها بثقة الشارع. وساهم غياب المشروع الوطني الجامع، والانقسامات داخل قوى الثورة، في تسهيل إعادة هندسة المشهد السياسي لخدمة مصالح الخارج لا تطلعات الداخل.
كما فُتح الباب أمام جهاتٍ إقليمية لتمويل مليشيا الدعم السريع خارج مؤسسات الدولة، ما قاد إلى تفجّر الحرب الماثلة التي مزقت البلاد وشردت الشعب في المنافي.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات على تحوّلاتٍ جادّة. فقرار الحكومة السودانية في مايو 2025 بقطع العلاقات مع دولة الإمارات وتصنيفها دولة عدوان لم يكن مجرد ردٍّ على دعمها العسكري لمليشيا متمرّدة، بل إعلانٌ سياسي جريء يُعبّر عن بداية تصحيح لمسار السيادة الوطنية والمحافظة عليها.
إذا أردنا أن نفهم اكتوبر بوعيه يجب أن نمضي في خطوات جادة يمكن أن تشكّل منطلقًا لبناء سياسة خارجية متوازنة، تضع المصلحة الوطنية فوق كل تقديرات، شرط أن تُستكمل بإعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة، وتقليص نفوذ البعثات الأجنبية، وتحرير النخب من عقدة الارتهان للخارج.
لقد وثّقت الأغنيات والشعراء ثورة أكتوبر كأحد أعظم التحولات في تاريخ السودان. كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل، خلف الصبر والأحزان يحيا، صامدًا منتظرًا حتى إذا الصبح أطلّ، أشعل التاريخ نارًا واشتعل.
فأكتوبر لم تكن حدثًا سياسيًا فحسب، بل لحظةً ثقافية واجتماعية كبرى. من محمد المكي إبراهيم إلى هاشم صديق، ومن محمد الأمين إلى وردي، ومن فضل الله محمد إلى قصائد الاكتوبريات، بقيت أكتوبر في وجدان الأمة، حاضرةً كلّما داهمها الخطر، وملهمةً في لحظات اليأس والخذلان.
بحسب #وجه_الحقيقة فإن أكتوبر، التي كانت ثورة حقيقية ضد الاستبداد، تصلح اليوم كمرجعية سياسية لبناء مشروع وطني جديد، لا يكتفي باستعادة السيادة، بل يرسّخها في المؤسسات، والدستور، والوجدان الشعبي.
فالشعب الذي أسقط عبود، وأسقط نميري، ثم البشير لا يمكن أن يُعجزه بناء دولة ديمقراطية ذات سيادة، ما دام قد تحرر من أوهام الوصاية، وامتلك الجرأة ليصوغ مستقبله. إن أكتوبر لم تكن فقط ذكرى، بل لا تزال دعوة مفتوحة للوعي، وللفعل، وللبناء، ولإعادة تأسيس الدولة السودانية على قاعدة القرار الوطني الذي ينتجه اهل السودان لا العواصم الخارجية.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 22اكتوبر 2025 Shglawi55@gmail.com