الخرطوم=^المندرة نيوز^
في عالم تتنازع فيه وسائل الإعلام التقليدية والرقمية على انتباه الجماهير، برز المسرح المتجول كأداة استثنائية تجمع بين الفن والرسالة، وبين الترفيه والتنوير. ومن التجارب السودانية الرائدة التي جسدت هذا الدمج البديع، تجربة مشروع “الخرطوم خالية من الملاريا” التي انطلقت عام 2002م، لتؤسس لاستخدام المسرح المتجول والدراما الشعبية في مكافحة الملاريا وتعزيز الوعي الصحي.
في ذلك الزمان، كنت وصديقي اختصاصي الصحة العامة د. التهامي أحمد إدريس أول من وضع خطة عملية للاستفادة من المسرح المتجول كوسيلة مبتكرة لتوصيل الرسائل الصحية بولاية الخرطوم. ورغم ما واجهته الفكرة من سخريةٍ واستهجانٍ في بداياتها — إذ قال بعضهم مازحاً: “يا ناس الملاريا غلبتكم بقيتو تغنوا ليها!” — إلا أن التجربة أثبتت لاحقاً أنها واحدة من أنجع وسائل الاتصال الجماهيري في مجال الصحة العامة.
بدأت الانطلاقة الواسعة من خلال المنافسة المدرسية لمكافحة الملاريا، التي غرست روح التفاعل والتسابق في نشر الوعي بين الطلاب “سأوثق لها تفصيلا لاحقا بإذن الله”. ثم تلتها مرحلة تدريب فرقة “مشاوير الفنية” لتقديم عروض مسرحية مباشرة في الأحياء الشعبية، والأسواق، ومواقف المواصلات، والجامعات، والمدارس، وحتى في القرى الطرفية. كانت العروض مليئة بالحياة، ممزوجة بالموسيقى والدراما والكوميديا، تحمل رسائل بسيطة وعميقة حول أهمية استخدام الناموسيات، وردم البرك، ومكافحة أماكن توالد البعوض، والتوجه المبكر للعلاج.
وتدريجياً، تحوّل المسرح المتجول إلى منصة تثقيفية متنقلة، تخاطب الناس بلغتهم وتقترب من وجدانهم، فارتفعت معدلات استخدام الناموسيات، وتحسّن سلوك الأهالي في إدارة بيئتهم الصحية، وأصبحت مكافحة الملاريا جزءاً من ثقافة المجتمع، لا مجرد حملة موسمية.
ساهم في إنجاح هذه التجربة نفر كريم من الخبراء والفنانين والإداريين بقيادة المدير المؤسس لمشروع الخرطوم خالية من الملاريا د. صلاح الدين مبارك الخليفة، ذلك الرجل الذي جمع بين حنكة الإدارة وإبداع الفكرة. ومن بين الكوكبة التي صنعت النجاح: د. أحمد الشيخ ميرغني، د. عايدة أحمد محمود، د. نادية السماني، نادية أحمد قاسم، د. هبة المكي، د. أحمد عبد القادر، د. الأمين علي الأمين، د. آسيا أزرق، د. بخيتة عبد الكريم، د. آدم محمد البشري، ومن الممثلين المبدعين: د. أبوبكر الشيخ، محمد صالح، عماد فقيري، عبدالله فضيل، أحمد الطويل، وإيهاب، إلى جانب كل طاقم المسرح المتجول الذين جعلوا من الفن سلاحاً ضد المرض.
ولم تكن هذه التجربة فريدة على الصعيد المحلي فحسب؛ إذ شهد العالم تجارب مماثلة ناجحة، مثل تجربة المسرح الصحي في كينيا الذي استخدم الدراما الشعبية في مكافحة الإيدز، وتجربة المسرح المتنقل في نيجيريا للتوعية بشلل الأطفال، ومبادرة المسرح التفاعلي في الهند التي غيّرت مفاهيم النظافة والصحة الإنجابية في القرى النائية. كما استخدمت منظمة الصحة العالمية هذا النهج في برامجها بعد أن أثبت فاعليته في تعزيز مشاركة المجتمعات في قضاياهم الصحية.
بعد اخير :
خلاصة القول، لقد سجلت تجربة “الخرطوم خالية من الملاريا” صفحة مضيئة في تاريخ التوعية الصحية بالسودان وثقتها العديد من تقارير منظمة الصحة العالمية، وأثبتت أن الفن ليس ترفاً بل وسيلة عميقة لإحداث التغيير الاجتماعي. كان المسرح المتجول فيها أشبه بنبض الشارع، يحمل رسائل الأمل والوقاية في قالبٍ مشوّقٍ ومحبّبٍ إلى الناس.. وأخيراً، تلك التجربة تستحق أن تُوثّق وتُدرّس كنموذجٍ رائد في استخدام الدراما لخدمة الصحة العامة — فقد غنّى الفن للإنسان، وانتصر للحياة.. ونواصل إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..
ليس لها من دون الله كاشفة
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين
#البعد_الاخر | مصعب بريــر |
الأربعاء (22 اكتوبر 2025م)
musapbrear@gmail.com