المندرة نيوز

وجه الحقيقة_ إبراهيم شقلاوي يكتب.. المسرح السوداني بين الأيديولوجيا وسؤال الحرب..؟

الخرطوم=^المندرة نيوز^
يعيد العرض المسرحي “رحلة الشفاء والصيف” إلى الواجهة تساؤلًا مهمآ طبقا للمقاربة النقدية: هل ما زال المسرح قادرًا على إنتاج وعيٍ مقاومٍ للحرب، أو على الأقل تقديم فهمٍ لأسبابها بمعزل عن سرديات الانقلابين؟ وهل يستطيع أن يسهم في ترميم النسيج الوطني الذي مزقته النخب وصراعاتها الأيديولوجية؟

العرض، الذي احتضنته العاصمة الأوغندية كمبالا في منتصف سبتمبر 2025، من توقيع الكاتب والمخرج مختار النور شرارة، أحد الأسماء الصاعدة في المشهد المسرحي السوداني، الذي اختار أن يشتبك مباشرة مع سؤال: من أطلق الطلقة الأولى؟ من خلال الدراما السياسية .

شارك في البطولة كلٌّ من سجدة حسن، في أداء عاطفي مشحون بديناميكية داخلية لافتة، ومحمد الطاهر مامدو، الذي جسّد دور البطل – الضحية، أو “الجثمان الحي” بلغة تجمع بين العبث والحكمة، بين الموت والاحتجاج.

أما التنفيذ الفني فشارك فيه محمد الدون في تصميم المؤثرات الصوتية والإضاءة، مانحًا العرض بعدًا سمعيًا وبصريًا متماسكًا، وأحمد هارون كمساعد مخرج. العمل بدأ متكاملًا من حيث البناء المسرحي والإخراج.

ينطلق العرض من مشهد صادم: جثة تُحمل إلى المسرح كما لو أنها تُودَّع في مشرحة، لكنها ليست جثة عادية. إنها شخصية “منتصر” ، التي تبدأ في الحديث والسخرية من فكرة موتها نفسها. تتحول الجثة إلى ذاتٍ واعية تحاور، وتحرّض، وتحاسب، وتفتح سجلّ الحرب بصوتٍ عالٍ.

إنه خطاب ما بعد الصمت، خطاب من لم يُتح له أن يحكي، ومن لم يجد من يسمعه حين كان حيًا. هذا البناء الدرامي المشحون بالعواطف يخفي تحته سؤالًا سياسيًا خطيرًا: من يكتب السردية الرسمية للحرب؟ من يعرّف الشهداء؟ ومن يقرر من هو الوطني ومن هو الخائن؟

المسرحية تُفكك هذه الثنائيات لا لتتخذ موقعًا بين طرفيها، بل لتقوّض منطقها بالكامل. فهي تقف ضد الحرب لأنها تجسّد إفلاس المشروع الوطني، وتكشف عن دولةٍ تفككت إلى جبهات متناحرة، وشعبٍ تحوّل إلى وقودٍ للصراع.

وفي الوقت نفسه، لم تتناول المسرحية فكرة الحرب كصراعٍ وجودي موجّه ضد المواطن نفسه، كما يتجلى في الانتهاكات الواسعة والوحشية التي طالت السودانيين، ولا أشارت إلى كونها تُخاض لاستعادة هيبة الدولة.

في هذا السياق، يصبح المسرح نفسه طرفًا في المعركة؛ مختبرًا حيًا لطرح الأسئلة التي تهرب منها النخب السياسية والفكرية السودانية، التي استسلمت لخطابات النقاء الثوري أو لشيطنة الآخر، أو لاحتماءٍ خادعٍ بحلولٍ خارجية تزيد الخذلان وتفكك الروح الوطنية.

لكن المسرحية، رغم جرأتها الفنية، تماهت مع الأيديولوجيا دون أن تنحاز للوطن والمواطن، ولم تطرح إجابات صريحة عن سؤال الانتهاكات ضد المدنيين. ولذلك، سيظل مثل هذا المسرح يصرخ في فضاء الكواليس، بينما الساسة يعيدون تدوير الإخفاقات نفسها بلغة مختلفة.

لقد كشفت رحلة الشفاء والصيف عن فراغٍ سرديٍّ مخيف في الخطاب الوطني. في مشهد الأم التي تبكي ابنها وتحوله إلى “رمزٍ للوطن” ، يعاد تموضع السرد من الأرض والناس إلى الموجوعين والمشردين الذين لا صوت لهم في الإعلام أو المنابر السياسية.

اليوم تبدو البلاد محاصَرة بين ثلاثية قاتلة: سياسة فقدت مشروعها، نخبة فقدت صدقيتها، وحرب بلا نهاية واضحة. وهنا يتجلى دور المسرح كمساحةٍ بديلة للخطاب السياسي المعبر عن المجتمع.

العرض لا يقدم حلولًا جاهزة، لكنه يطرح أسئلة شجاعة: لماذا يتحول الشباب الذي واجه الرصاص في ثورة سلمية إلى قتلة أو قتلى في حرب لا يفهمون دوافعها؟ أو ربما يفهمون خصوصا الذين انحازوا للمليشيا وقاتلوا معها، كما وثقت ذلك كثير من مقاطع الفيديو المنتشرة في السودان.

لكن يظل السؤال لماذا تفرّط الدولة في شبابها؟ وكيف تتحول الثورة إلى ذاكرة منكسرة في مشرحة الوطن؟

التحليل السياسي لهذه التجربة لا يقتصر على السودان وحده، بل يلتقي مع التجربة السورية، حيث تحوّل الصراع السياسي إلى حرب وجود، وغابت الدولة كفكرةٍ ومؤسسة . هناك صار المسرح مرآةً للمجتمع الممزق، لا يقدّم رواية واحدة، بل يحتفي بتعدد الألم : الضحية، المقاتل، المنكسر… جميعهم في فضاء واحد يبحث عن معنى للحياة و النجاة.

في ختام العرض، يُطرح السؤال الأخطر: هل يمكن أن تنتج الحلول القادمة من الخارج سلامًا حقيقيًا؟ أم أنها مجرد تأجيلٍ مؤقتٍ لصراعٍ لم يُحسم بعد في الوعي الوطني؟ المسرحية لا تجيب، لكنها تفتح الجرح. تعيد تعريف السلام بوصفه استعادةً للعقل النقدي والضمير الحي والنسيج الاجتماعي الذي تآكل بين صراعات الهويات والنخب .

وبحسب #وجه_الحقيقة، فإن السودان اليوم يحتاج إلى مشروعٍ ثقافي اجتماعي نهضوي يعيد الاعتبار لقيم التعدد والتسامح والمواطنة، وهي القيم التي تهزم بصمت النخب عن مواجهة ذاتها، فالمسرح بما يمتلك من جرأة في الطرح وقدرة على توليد الأسئلة، أصدق من كثير من موائد التفاوض المرتهنة وحلولها المعلبة. لأنه ببساطة لا يبيع الوهم ولا يجمّل الخذلان، بل يعرض المأساة كما هي.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 23 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *