الخرطوم=^المندرة نيوز^
سادسا: نهاية الخصوصية وبداية الشفافية القسرية ..
في الماضي، كانت الخصوصية تُعد من أقدس الحقوق الإنسانية، رمزًا للحرية الفردية وكرامة الإنسان. أما في زمن الرقمنة الشاملة، كما يصفه مارك دوغان وكريستوف لابي في كتاب «الإنسان العاري»، فقد صارت الخصوصية أثرًا من الماضي. لم يعد الإنسان يعيش خلف جدران تُخفي أسراره، بل صار عاريًا بالكامل أمام عالمٍ لا يعرف الحياء: عالم البيانات.
يقول الكاتبان إننا دخلنا عصر الشفافية القسرية، حيث تُكشف حياتنا دون إذننا، لا لأننا أردنا ذلك بالضرورة، بل لأن كل أداة حولنا — الهاتف، بطاقة الائتمان، الكاميرا، الساعة الذكية، السيارة المتصلة بالإنترنت — تحوّلت إلى عين رقمية تراقبنا بلا توقف. هذه الأجهزة تسجل كل حركة، كل موقع نزوره، كل مكالمة نجريها، حتى عدد الخطوات التي نخطوها أو نبضات قلوبنا في لحظة القلق.
في هذا العالم الجديد، لم تعد المراقبة أداة سلطة فوقية كما تخيلها جورج أورويل في روايته “1984”، بل أصبحت أسلوب حياة. نحن نشارك طوعًا تفاصيلنا اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، نصور وجباتنا، نعلن مواقعنا، نكتب أفكارنا وانفعالاتنا. ومع كل منشور جديد، نُسهم في بناء سجننا الذكي بأيدينا. الشفافية لم تعد خيارًا، بل أصبحت إلزامًا اجتماعيًا: من لا يشارك يُتهم بالاختفاء أو الغموض أو حتى بالريبة.
يشرح دوغان ولابي أن هذا التحول صنع إنسانًا مكشوفًا بالكامل: إنسانًا بلا أسرار، بلا ظلال، بلا مساحة داخلية حقيقية. حتى ما كان في الماضي حميمًا أو خاصًا، أصبح اليوم جزءًا من اقتصاد البيانات. عندما تفتح تطبيق الصحة في هاتفك لتراقب نومك ونبضك، فإنك لا تراقب نفسك وحدك — بل تزوّد شركة ما بمعلومات دقيقة عن جسدك وعاداتك، يمكن بيعها لشركات التأمين أو الأدوية أو حتى جهات حكومية.
النتيجة أن الإنسان المعاصر يعيش في قفص من الضوء، لا ظلام فيه ولا خصوصية، لكنه قفص في النهاية. كل ما كان يومًا اختيارًا أصبح إلزامًا باسم “الراحة” و“الأمان”. فالحكومة تراقب المواطنين بدعوى مكافحة الإرهاب، والشركات تتابع المستخدمين لتقديم “خدمات أفضل”، والمجتمع يضغط لمشاركة كل لحظة “من أجل التواصل”. وهكذا، باسم المصلحة العامة، يتم تجريد الإنسان من خصوصيته قطعة قطعة، حتى لا يبقى له سوى وهم السيطرة على حياته الرقمية.
يضرب المؤلفان مثالًا صارخًا بالصين، حيث تطور الدولة ما يسمى بـ نظام الائتمان الاجتماعي، الذي يقيم المواطنين وفق سلوكهم اليومي في الحياة الواقعية والرقمية: ماذا يشترون، مع من يتحدثون، كيف يتصرفون على الإنترنت. كل سلوك يؤثر على تقييم الفرد، الذي يحدد بدوره ما إذا كان يستحق القروض أو السفر أو فرص العمل. هذا النظام، كما يقول الكاتبان، ليس استثناءً بل نموذجًا متقدمًا لما ينتظر بقية العالم حين تُدمج البيانات والذكاء الاصطناعي بالسلطة السياسية والاقتصادية.
إن جوهر الخطر هنا ليس فقط في ضياع الخصوصية، بل في تحول الشفافية إلى أداة للضبط الاجتماعي. فحين يعرف النظام كل شيء عنك، يصبح التحكم فيك أمرًا بسيطًا: يمكن معاقبتك أو مكافأتك، استهدافك أو تهميشك، دون عنف أو إكراه. يكفي تعديل ما تراه على شاشتك، أو ما يُعرض لك من فرص، لتُقاد برفق نحو السلوك “المطلوب”. إنها الطاعة الرقمية الصامتة التي تحدث دون أن ندركها.
بعد اخير :
خلاصة القول، يرى دوغان ولابي أن فقدان الخصوصية يعني فقدان الإنسان لجوهر ذاته. فبدون مساحة سرية خاصة، لا يمكن التفكير بحرية، ولا اتخاذ قرار مستقل. الإنسان بلا أسرار ليس حرًا، بل مجرد كائن متوقع السلوك. ولذلك، يدعوان إلى مقاومة هذا المسار لا بالعزلة أو الرفض المطلق للتكنولوجيا، بل بـ إعادة التفاوض على الحق في الغموض — أي الحق في أن يكون للإنسان وجه لا تراه الخوارزميات.. واخيراً، الخصوصية ليست ترفًا ولا رفاهية، بل شرطًا أساسيًا للكرامة. حين نفقدها، نصبح عراة أمام سلطة لا نراها، لكنها ترى فينا كل شيء. يقول الكاتبان بعبارة قاسية: «في العالم الرقمي، لم يعد هناك مكان للاختباء. لقد أصبح الإنسان شفّافًا، حتى الموت لم يعد سرًّا».. ونواصل في الحلقة القادمة: “نحو دكتاتورية خفية”.. كيف تُحكم المجتمعات بالخوارزميات دون أن تشعر؟ إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..
ليس لها من دون الله كاشفة
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين
#البعد_الاخر | مصعب بريــر |
الاثنين (3 نوفمبر 2025م)







