المندرة نيوز

د. عبدالعزيز الزبير باشا يكتب.. حين تتكلم جنيف

الخرطوم=^المندرة نيوز^
كيف يمكن للإعلام السوداني تحويل تقارير الأمم المتحدة إلى سلاح ناعم يخدم قضية الوطن?

في لحظات نادرة من التاريخ، يتقاطع الألم الإنساني مع اللغة القانونية، ويصبح التقرير الأممي وثيقة سياسية بامتياز — لا لأنه كُتب بلغة حقوق الإنسان، بل لأن من وراء كلماته تتردد أصداء الحقيقة التي حاول كثيرون دفنها تحت ركام اللامبالاة الدولية. التقرير الصادر من جنيف عن فريق الخبراء المستقلين التابعين للأمم المتحدة بشأن فظائع rebel RSF في الفاشر، هو واحد من هذه اللحظات. إنه ليس مجرد تقرير حقوقي؛ بل شهادة أممية صريحة تضع النقاط على الحروف وتكسر رواية التوازن الزائف التي لطالما استخدمتها بعض الأطراف لتبرير الصمت أو التواطؤ.

لكن السؤال المحوري هنا: كيف يمكن للإعلام السوداني – الرسمي والمستقل – ومعه الفاعلون في الفضاء الرقمي من مؤثرين وناشطين، أن يحوّلوا مثل هذه التقارير من مادة خبرية عابرة إلى رافعة استراتيجية تخدم القضية السودانية في المحافل الدولية؟

*أولاً: إعادة صياغة الخطاب لا مجرد نقله*

المطلوب ليس نشر التقرير كما هو، بل تفكيكه وإعادة بنائه في خطاب إعلامي وطني ذكي يربط بين لغة الأمم المتحدة ولغة الضمير العالمي. التقارير الأممية تستخدم مصطلحات قانونية دقيقة مثل “crimes against humanity” و*“systematic sexual violence”* و*“ethnically targeted executions”*.
ينبغي للإعلام السوداني أن يتعامل مع هذه المصطلحات كما يتعامل الدبلوماسي مع البيان السياسي: لا كمجرد كلمات، بل كدلائل قضائية يمكن أن تُستخدم في المرافعات المستقبلية أمام المحكمة الجنائية الدولية أو مجلس الأمن أو حتى الرأي العام الغربي.

بعبارة أخرى، يجب أن تتحول اللغة القانونية إلى لغة وجدانية مقنعة تخاطب الحس الإنساني قبل الحس القانوني، دون أن تفقد دقتها.

*ثانياً: التدويل الذكي عبر الإعلام الرقمي*

التقرير يتضمن أسماء شخصيات أممية ثقيلة الوزن، من مقرري الأمم المتحدة المعنيين بالعنف ضد النساء إلى خبراء الاختفاء القسري والتعذيب. هذه الأسماء لها ثقل في عواصم القرار.
على المؤثرين السودانيين في المنصات العالمية مثل X (Twitter) وTikTok وLinkedIn أن يتعاملوا مع هذا الزخم كفرصة نادرة. لا يكفي التنديد أو الهاشتاق؛ بل يجب تحويل المضمون إلى سلسلة رسائل مترابطة تضع العالم أمام مشهد موثّق:
“هذا ليس تقريراً سودانياً. هذه شهادة من جنيف على ما جرى في الفاشر.”

توظيف لغة الفيديو القصير، الرسوم التوضيحية، الخرائط الزمنية، والاقتباسات الدقيقة من نص التقرير يمنح المصداقية التي يصعب على أي جهة إنكارها. فالصور المأخوذة من تقارير الأمم المتحدة لا تحتاج إلى تعليق مطوّل، بل إلى عنوان واحد ذكي ومؤثر، يربط بين ما ورد في التقرير وما يشهده العالم من ازدواجية في المعايير.

*ثالثاً: كسر احتكار السرد الدولي*

منذ بداية الغزو على السودان، حاولت بعض الجهات الخارجية تسويق فكرة “نزاع داخلي” بدلاً من وصف الحقيقة: غزو وتمرد مسلح مدعوم خارجياً.
تقرير الأمم المتحدة هذا يكسر تلك المعادلة، لأنه يصف بوضوح طبيعة الجرائم الممنهجة التي ارتكبتها rebel RSF، ويشير ضمنياً إلى النمط نفسه في الجنينة وأرداماتا.
إذن، المطلوب من الإعلام السوداني هو تثبيت هذا السرد الأممي الجديد وتكراره في كل بيان، مقال، ومقابلة دولية:

“الأمم المتحدة نفسها وثّقت نمط الجرائم ذاتها التي ارتكبها المتمردون بدعم خارجي، من الفاشر إلى الجنينة.”

هنا تصبح الرواية السودانية أكثر من دفاع وطني، بل رواية دولية متكاملة تستند إلى أدلة أممية، لا إلى العاطفة أو الخطاب السياسي المحلي.

*رابعاً: تحويل الضمير العالمي إلى ضغط سياسي*

العالم الغربي – بخاصة الإعلام الأوروبي والأمريكي – يتفاعل مع ثلاث مفاتيح: المرأة، الطفل، والمجاعة.
تقرير جنيف تطرّق إلى هذه الثلاثة في فقرات واضحة وصادمة.
على الإعلام السوداني أن يستثمر هذا الجانب تحديداً من التقرير ليقدمه بلغة تُظهر المأساة الإنسانية قبل السياسية. فحين يُقال إن 460 شخصاً قُتلوا داخل مستشفى الولادة في الفاشر، و6,000 امرأة حامل بلا رعاية، و25 فتاة اغتُصبن داخل مراكز النزوح، فإن القصة تتحدث بنفسها.
المطلوب هنا ليس المبالغة، بل الإبقاء على الحقائق كما وردت – لأن بشاعتها وحدها كافية لخلق أثر سياسي إذا ما صيغت بذكاء وجرى دفعها عبر الإعلام الدولي المستهدف.

*خامساً: التوقيت جزء من المعركة*

في عالم السياسة، من يملك توقيت النشر يملك نصف المعركة.
ينبغي للإعلام السوداني تنسيق موجات النشر والتحليل مع المناسبات الأممية: جلسات مجلس حقوق الإنسان، اجتماعات مجلس الأمن، أو أي تحرك حول المساعدات الإنسانية.
بمعنى آخر، تحويل التقرير إلى وثيقة متجددة التأثير، تُستدعى في كل مناسبة لتذكير العالم بأن ما حدث في الفاشر ليس حادثاً منعزلاً بل جزء من مخطط مستمر.

*سادساً: الذاكرة الجمعية كدرع وكمحرّك*

ما تحتاجه القضية السودانية اليوم ليس فقط التنديد، بل تثبيت الذاكرة.
يجب أن تكون الفاشر رمزاً لا يُنسى، تماماً كما أصبحت سربرنيتسا في البوسنة.
فالإعلام الواعي لا يترك الجريمة تموت، بل يحوّلها إلى ذاكرة حية تحفظها الأجيال وتفرض على العالم الاعتراف بها عاجلاً أم آجلاً.

خاتمة
التقارير الأممية ليست نهاية المعركة، بل بدايتها القانونية والأخلاقية.
وعندما يحسن الإعلام السوداني توظيفها ضمن سردية وطنية موحدة، مدعومة بالأرقام والحقائق والأسماء الأممية، فإنه لا يدافع عن السودان فحسب، بل يعيد تعريف العدالة في نظر العالم.
إن المعركة اليوم ليست على الأرض وحدها، بل في الفضاء الرمزي للكلمة والصورة والرأي العام.
ومن يفهم كيف تُدار معركة السرد، يدرك أن القلم المدعوم بالوثيقة قد يفعل ما لا تفعله الطائرة في الجو.

*وطن ومؤسسات*
*السودان أولاً وأخيراً*
*د. عبدالعزيز الزبير باشا*
*11/11/25*

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *