الخرطوم =^المندرة نيوز^
لم يفاجئ بيان الاتحاد الأوروبي حول السودان أحدًا. فالتوقيت متأخر، واللغة مألوفة، والخط السياسي ذاته يتكرر كلما اشتدت الفظائع وارتفعت الكلفة الإنسانية على السودانيين. البيان بدا قويًا في عباراته، لكنه ظل، كما في كل مرة، عاجزًا عن تقديم موقف حقيقي يتناسب مع حجم الجريمة ومعايير العدالة الدولية التي يحب الاتحاد أن يذكّر بها العالم.
من حيث المبدأ، إدانة ميليشيا الدعم السريع المتمردة مطلوبة وضرورية، لكن وضعها في الجملة نفسها مع القوات المسلحة السودانية يفضح اضطرابًا في رؤية الاتحاد لطبيعة الصراع: جيش دولة يقاتل دفاعًا عن شعبه وسيادة بلده، في مقابل ميليشيا متمردة نفذت مشروعًا أنشطته الإجرامية معروفة منذ دارفور وحتى الفاشر. ورغم ذلك، يختار الاتحاد الأوروبي «توزيع اللوم» بطريقة توحي بأن الأطراف متساوية أخلاقيًا وسياسيًا، وهو خلط لا يمكن لعاقل أن يأخذه على محمل البراءة.
العقوبة الأوروبية المفروضة على عبد الرحيم دقلو تبدو أقرب إلى ورقة إثبات وجود، لا إلى خطوة جادة. فقد جاءت بعد سقوط الفاشر وبعد سلسلة طويلة من الجرائم الموثقة. والأسوأ أنها جاءت منفصلة عن أي مسار متكامل للمساءلة أو عن أي جهد يغيّر سلوك الميليشيا أو داعميها. ثم يضيف الاتحاد عبارة: «الاستعداد لفرض تدابير إضافية عند الاقتضاء» — وهي صيغة دبلوماسية تعني ببساطة: لن نتعجل.
البيان يصر على تحميل الجيش السوداني مسؤولية «إنهاء الصراع»، وكأن القوات المسلحة هي الطرف الذي بدأ الحرب أو طرح مشروعًا لتقسيم البلاد أو هجّر المدن. هذا التوازن المصطنع هدفه إبقاء الباب مفتوحًا أمام تسوية سياسية تضمن للاتحاد الأوروبي المقعد الذي يخشى أن يخسره لصالح القوى الإقليمية الصاعدة.
أما الحديث عن «وقف توريد السلاح لكل الأطراف» فهو قفز فوق الواقع. فهناك طرف واحد يتلقى السلاح والمرتزقة والدعم اللوجستي عبر قنوات إقليمية ودولية معروفة. أما الجيش السوداني فلا يملك رفاهية القتال بغير سلاح؛ لأنه جيش دولة يحارب على أرضه دفاعًا عن شعب قُتل وهُجّر واختُطف واُستخدم كدروع بشرية لمدة عامين.
وفي ما يتعلق بالمساءلة، فإن دعم المحكمة الجنائية أو بعثة تقصي الحقائق لا يُعد موقفًا استثنائيًا؛ فهو الحد الأدنى الذي يستطيع الاتحاد قوله دون أن يكلفه ذلك شيئًا. لكن ما ينقص البيان هو الاعتراف بجذر الأزمة: مشروع الميليشيا الانقلابي الذي يريد فرض سلطة موازية وتقسيمًا فعليًا للأرض والسكان. تجاهل هذه الحقيقة يجعل أي خطاب عن «وحدة السودان» مجرد إنشائيّات دبلوماسية.
الدعوة المتكررة إلى «وقف فوري لإطلاق النار» جزء آخر من الخطاب الأوروبي التقليدي. لكنها دعوة تتجاهل أن وقف إطلاق النار مع جهة ارتكبت إبادة وتمارس الإخفاء القهري وتستخدم المدنيين رهائن يعني ببساطة إعطاءها شرعية سياسية لم تحصل عليها يومًا.
وفي نهاية البيان، يحاول الاتحاد أن يذكّر الجميع بأنه لا يزال لاعبًا في المشهد: الرباعية، باريس، لندن، الشركاء الدوليون… لكن الحقيقة أن الملف لم يعد في يد بروكسل منذ زمن. الفاعلون الحقيقيون في المنطقة، وليس في أوروبا، هم الذين يحددون إيقاع الأحداث اليوم.
*الخلاصة*
بيان الاتحاد الأوروبي مليء بالكلمات الثقيلة، لكنه فارغ من الأفعال الثقيلة.
يدين الجرائم لكنه يتجنب تسمية جذورها.
يدعم المساءلة لكنه لا يساند الدولة التي تحارب لفرض القانون.
يدعو لعدم تقسيم السودان لكنه يرفض الاعتراف بمن يسعى لتقسيمه.
يتحدث عن حماية المدنيين لكنه يساوي بين من يحمي مدن السودان ومن يحاصرها.
البيان مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المواقف الغربية التي تُبقي الصراع معلقًا باسم «التوازن» و«الحياد»، بينما الحقيقة على الأرض واضحة وضوح الشمس:
هناك دولة تقاتل لتبقى… وهناك ميليشيا متمردة تقاتل لتمزّق ما تبقى.
*د. عبدالعزيز الزبير باشا*
*21/11/25*






