المندرة نيوز

إبراهيم شقلاوي في وجه الحقيقة يكتب.. لا تضيعوا فرصة هندسة الخرطوم

الخرطوم=^المندرة نيوز^
أمس قمت بجولة مع عدد من الأصدقاء الذين عادوا مؤخرا من القاهرة، شملت جولتنا الخرطوم وأم درمان وبحري، بدت العاصمة كمن يحاول أن يلتقط أنفاسه بعد مخازي الحرب. أعمدة الكهرباء تنصب من جديد، توصيلات المياه تُجدّد، شوارع تُرصف، ومستشفيات وجامعات تستعيد عملها بعد أن غابت زمنًا. ورش صغيرة هنا، وفِرَق صيانة هناك، وحركة أشبه بنبض قلب عاد للتو من حافة الموت. هذه هي الخرطوم التي نريدها أن تعود، فالمدينة حين تستعيد عملها، تستعيد الدولة مكانتها، وتستعيد الأسر ثقتها، ويعود الناس إلى أوطانهم من اللجوء المسغبة .

لكن خلف هذا المشهد، تلوح ظلال مقلقة لا ينتبه إليها كثيرون. امتلأت الطرقات بالمتسولين من كل صوب، بعضهم في كامل الصحة والعافية، وآخرون يمارسون أعمالًا هامشية على حساب النظام العام، بدأت الأرصفة تدريجيًا تتحول كما في السابق إلى فضاءات منفلتة. هذه المشاهد ليست جديدة، إنها ذات العلامات التي سبقت الحرب، يوم كانت الخرطوم تفقد تدريجيًا هيبتها وسيادتها، دون أن يشعر أحد بأن الخطر يتعاظم.

سياسيًا ما يعنيه هذا أن الدولة تركز على إعادة تأهيل البنية التحتية، لكنها تغفل أخطر ما في الخرطوم: إعادة تأهيل روحها، ونظامها، وهيبتها، ومسؤوليات سكانها. إن الفوضى الاجتماعية التي نراها الآن ، هي مؤشرات مبكرة على هشاشة الدولة إذا لم يتم التعامل معها بوعي ومسؤولية. فكل دولة تُبنى مرتين: مرة بالحجر، ومرة بالنظام والقيم … وإذا بُني الحجر وحده، سيتصدع عاجلًا أو آجلًا.

فالمشهد الأمني يعيد إلى الذاكرة مقدمات سبقت الحرب، حين تمددت مجموعات المتسولين المنظمة داخل العاصمة، تعبيرًا عن الفقر، بجانب شبكات تعمل في تحويل الرصد والمتابعة للحركة اليومية للمدينة. واللافت أن الوجوه ذاتها تظهر الآن، بالطريقة نفسها، وبالانضباط والتوزيع ذاته، وكأنها تعيد الانتشار لتستأنف دورًا لم يكتمل.

هذه الحركة ليست عفوية، إنها إعادة انتشار محسوبة لشبكات ظلت لعقود تتدفق الي العاصمة، مستخدمة الأكشاك والأسواق والسلع الهامشية كنقاط ارتكاز داخل الخرطوم. وهذه الشبكات، تعمل على بناء “حضور مضاد” داخل المدن، يسمح لها بالتحرك ساعة اللزوم. إن ظهورها اليوم يشير إلى أن إعادة تشكيل الجبهة الداخلية قد بدأت، وأن قوى ما بعد الحرب تحاول خلق موطئ قدم جديد وسط الفضاء السكاني الذي لم يُعاد تنظيمه بعد.

في سياق هذا الاحتقان الذي رصدته اعيننا، انعقدت في ولاية الخرطوم ورشة لصياغة استراتيجية أمنية وعدلية تمتد حتى 2036، بمشاركة القضاء والنيابة والقوات النظامية والمخابرات والخبراء ، أكد الوالي خلالها ضرورة تثبيت الأمن ، مشيرًا إلى تحديات الوجود الأجنبي والسكن العشوائي والتفلتات. فيما شدّد المجلس الأعلى للاستراتيجية والمعلومات على أن الأمن وسيادة القانون هما عماد إعادة الإعمار، بينما تحدث مدير شرطة الولاية عن فلسفة أمنية تستبق التهديد بدل انتظار وقوعه، وهو اعتراف ضمني بأن الخرطوم كانت تُدار سابقًا بنهج رد الفعل وليس الفعل.

لكن هذه الورش، مهما اتسعت المشاركة فيها، ستبقى بلا معنى إذا لم تُنفّذ توصياتها فورًا. فالقوى التي أعادت نشر عناصرها داخل المدينة ربما تعتمد على عامل الزمن. وكل يوم تؤجّل فيه الدولة قراراتها، يتيح لتلك الشبكات إعادة تنظيم نفسها، وربما توسيع حضورها الاقتصادي والاجتماعي. وهنا تقع المسؤولية المباشرة على الجهات الرسمية في الولاية، وعلى اللجنة العليا برئاسة الفريق إبراهيم جابر، المكلفة بإعادة تأهيل العاصمة وضبط الوجود غير المنظم وإزالة الفوضى الشاخصة.

لكن الدولة وحدها لا تستطيع خوض هذه المعركة. فالمواطنون هم خط الدفاع الثاني وشركاء الأمن الحقيقيون. ووعيهم، وملاحظاتهم الدقيقة، وقدرتهم على اكتشاف الغرباء والتحركات غير المعتادة، يمثلون ركيزة لا غنى عنها. فإن الأمن شأنًا مجتمعيًا بقدر ما هو شأن رسمي.

كذلك يبرز دور الإعلام خصوصًا الإعلام التنموي ، باعتباره جزءًا من عملية إعادة تشكيل الوعي السياسي ورفع الحس الأمني. فالإعلام هنا يجب أن لا يكتفي بنقل المعلومات، بل يعمل على هندسة الرأي العام، ورفع حساسيته تجاه الاختراق، وكشف الشبكات التي تتحرك في الظلال، وتحويل المواطن من متفرج إلى فاعل أساسي في حماية الأمن .

إن التباطؤ في مواجهة هذا المشهد سيمنح هذه الشبكات فرصة لإعادة تمكين نفسها. وهنا تتقاطع الظاهرة الميدانية مع نتائج الورشة الأمنية الأخيرة: فالدولة أمام اختبار حقيقي لسرعة حسمها، ومدى قدرتها على إعادة بناء منظومتها الاستخبارية، وتنظيم حركتها الأمنية، وضبط حدود العاصمة وداخلها، ومنع أي وجود بشري غير مندمج في قواعد الدولة.

إن هندسة الخرطوم اليوم ليست مشروعًا عمرانيًا، بل مشروعًا سياسيًا وحضاريًا لحماية الدولة ومنع عودة الفوضى التي صنعت الحرب حين تخلخلت العاصمة. والفرصة المتاحة اليوم محدودة، وأي تباطؤ قد يسمح بعودة الخرطوم إلى مرحلة ما قبل الحرب، لكن بصورة أشد تنظيمًا وأعمق اختراقًا. فالعاصمة المثلثة بحاجة إلى ذراع الدولة، و وعي المجتمع، وكل جهد إعلامي لإعادة الأمن والاستقرار الاجتماعي .

الخرطوم يجب أن تحصن بالوعي السياسي، والإعلام المسؤول، والمواطن الذي يعرف أن عودته ليست مجرد خطوة شخصية، بل جزء من معركة إعادة الدولة نفسها. لذلك الأمن يبدأ من الأزقة والحواري قبل الوزارات ، ومن يقظة المجتمع قبل قرارات المكاتب، ومن الفعل العاجل قبل التحليل المتأخر. ومن يعرف الخرطوم يدرك أن عودتها للعمل والفعل الاجتماعي والسياسي والثقافي والنظام تعني عودة الدولة الي دورها وأمل المواطنين في الأمن والرخاء. وهذا هو #وجه_الحقيقة.

دمتم بخير وعافية.
الاثنين 1 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *