المندرة نيوز

وجه الحقيقة_ إبراهيم شقلاوي يكتب.. المشهد السوداني ومأزق بريشت

الخرطوم=^المندرة نيوز^

يشبه المشهد السوداني اليوم خشبة مسرحٍ مفتوحة على كافة الاحتمالات، يتبادل عليها اللاعبون أدوارهم تحت الأضواء الخافتة، فيما يجلس الجمهور في قلب القاعة يتابع دراما التحولات، بعد أن انهار الجدار الرابع الذي فصل طويلًا بين الحاكم والمحكوم، وبين النص ومن يعيش تبعاته.

وكأن تجربة بريشت في المسرح الملحمي تعود للحياة في السودان، حيث لا يعود الجمهور مجرد متفرج، بل يتحول إلى عنصرٍ حاسم في تشكيل القصة ومآلاتها ، يصنع المعنى، ويعيد قراءة المصير وصناعة المستقبل.

لقد أمضى السودان عقودًا طويلة في ظل نخبةٍ تعاملت مع السلطة باعتبارها نصًا مغلقًا لا يُسمح للجمهور بتعديل مشهده. لكن الحرب الأخيرة، بكل ما حملته من انتصارات و انكسارات ونزوح و خذلان، أطاحت هذا الوهم، وجعلت المواطن جزءًا من بناء الحدث و توجيهه لا مجرد متفرج عليه، يرى المشهد بوضوح وانتباه : من يكتب النص، ومن يوزع الأدوار، ومن يتحكم في الإضاءة وحركة الستارة، ومن يغيّر اتجاه المسرح دون إذنه.

وفي هذا السياق، تتحرك الرباعية الدولية عبر تحالفها الظرفي الذي تجمعه المصالح، بخارطة طريق تبدو متماسكة، لكنها تطرح تسويةً تقوم على سلامٍ كاذب باطنه استسلام، خطة تعيد هندسة الداخل السوداني وفق حسابات الخارج، وتمنح نفوذًا لمن لا نفوذ لهم، وتعمل على إقصاء قوى سياسية وازنة، بجانب إعادة تشكيل المؤسسات العسكرية والأمنية بعيدًا عن منطق حماية الوطن، لكن وفقًا لميزان المصالح الدولية. غير أن هذه المقاربة، التي تسعى إلى كتابة مصير السودان في غرف مغلقة، تصطدم بشعب اعتاد أن يقف في وجه الوصاية، وتمرّس على تغيير النصوص، وتمرد على كل ما يحمل رائحة الاستعمار ولو كان بثوبٍ دبلوماسي ناعم.

وما يزيد الصورة تعقيدًا أن الرباعية تتحرك بروح من يعتبر نفسه مؤلف المسرحية، فتكتب فصولاً جاهزة لتُفرض على مسرحٍ ظلّ شعبه في تاريخ قريب هو الذي يغيّر المشاهد، ويقلب النصوص، ويتمرد على كل ما يحمل بصمة الوصاية. فقد أثبت السودانيون منذ الاستقلال أنهم ليسوا جمهورًا يُقاد بالعاطفة أو القمع، أو الوعود الكاذبة، بل هم قوة قادرة على فضح أقوى السيناريوهات الدولية، بمجرد أن يستعيدوا زمام الوعي والقرار.

لذلك تتجلى في هذا المشهد صفة التغريب البريشتي علي نحو قاسي ، إذ تحولت الحياة اليومية نفسها إلى حدثٍ غريب يستدعي التأمل: مدارس أصبحت ملاجئ، مدن انشطرت بين النزوح والمقاومة والاحتساب ، حياةٌ تُدار وتنتج تحت القصف، وهوياتٌ تعيد تعريف ذاتها وسط التناقضات.

ومن رحم هذه المعاناة ولد الوعي، واعيد النظر في معنى الدولة والأمن والوطن، وفي خطاب وخطايا الماضي المخزية التي لم تعد قابلة للترميم بخطابٍ يزيّن القبيح ويجمل الاستعمار، أو اتفاقٍ فوقيّ يتجاهل جوهر الأزمة. ويعلي المصالح الدولية التي تتحرك ضمن الجغرافيا المنهكة وفق اتجاه الرياح الإقليمية والدولية ،التي يريدونها أن تملي أشرعتهم وحدهم.

أما السياسيون يظلون بذات الانتهازية، فيستعيدون على طريقتهم روح “أوبرا الثلاثة قروش” ، حين يتحدثون عن الأخلاق قبل الطعام، وعن الإصلاح قبل الكرامة، مع أن الأزمة تتشكل أمامهم، أزمة حياة تنحدر كل يوم إلى مستويات من الحصار ومصادرة إرادة الجمهور . لذلك تأتي سخرية السودانيين من كل هؤلاء لتفضح هذا الانفصال بين الخطاب السياسي المرتهن والواقع الذي يحفظ أمن وسلامة الوطن من الانكسار.

يبدو السودان كما في مسرح بريشت، بلدًا يعيش مشاهد غير مترابطة في الزمن والمكان، لكنها ترتبط بروح واحدة: حرب تمتد لتحسمها البندقية، وساطات تهبط من السماء، اتفاقات تُكتب في السر وتُنسف في العلن، ومصالح دولية تتحرك فوق الجغرافيا المتعبة لإرضاء الأوهام الإقليمية والدولية . وتتغير المشاهد بسرعة تفوق قدرة الشعب على إلتقاط أنفاسه ، رغم ذلك فإن الدولة المكلومة تجيد تعريف ذاتها ، وجيشها واستقلالها .

وفي هذا الواقع المضطرب بحسب #وجه_الحقيقة تبقى النهاية مفتوحة كما أرادها بريشت في مسرحه الملحمي، ستارة لا تهبط وأسئلة لا تنتهي:

عليه فإن الخروج من المأزق لا يمكن أن يتم عبر نصوص مكتوبة في غرف معتمة ، ولا عبر مقاربات خارجية تتعامل مع السودان كساحة نفوذ. الحل يبدأ حين يستعيد الجمهور دوره، صاحبًا للنص لا شاهد عليه، شريكًا في إعادة هندسة الدولة لا موضوعًا للهندسة، قوةً تعيد تعريف السيادة بمعناها الحقيقي، وتفرض على الجميع أن المسرح.. كما قال بريشت : ليس ملكًا للممثلين، بل لمن يجلس في القاعة ويحمل الفكرة.

وهكذا، لا تكتمل القصة إلا إذا أصبح السودانيون هم من يرفعون الستارة ويغلقونها، وهم من يقررون كيف تنتهي الحكاية. ففي وطنٍ جُبل على التمرد لا يمكن لأي قوة خارجية، أن تكتب المشهد دون توقيع الشعب .
دمتم بخير وعافية.
السبت 6 ديسمبر 2025م

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *