الخرطوم=^المندرة نيوز^
أثار القرار الأخير الصادر عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بشأن ضوابط توثيق الشهادات الجامعية المطبوعة بصيغة PDF نقاشاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، حيث اعتبره البعض تراجعاً عن مسار الحداثة الرقمية. غير أن القراءة المتعمقة لهذا القرار تكشف عن رؤية استراتيجية تهدف إلى حماية الشهادة الجامعية السودانية باعتبارها وثيقة سيادية، وضمان مستقبل الخريجين من مخاطر الأنظمة التقنية الهشة التي تفتقر إلى معايير الأمان الرقمي.
أكدت الوزارة أن قرارها بعدم اعتماد الشهادات الإلكترونية ذات التوقيع الضعيف يمثل إجراءً وقائياً لحماية السيادة الأكاديمية الوطنية وضبط التفاوت التقني بين الممارسات العالمية والمحلية. ففي حين تعتمد الجامعات الدولية على أنظمة توقيع رقمي مشفر متين، اكتفت بعض المؤسسات المحلية بتحويل الوثائق إلى ملفات رقمية تحمل صورة للتوقيع فقط، وهو ما يفتح الباب أمام التزوير. القرار جاء لوقف انتشار هذه الوثائق الهشة وضمان قوة النظم التشريعية والتقنية لمؤسسات التعليم العالي.
وأوضحت الوزارة أن التوقيع الرقمي يعتمد على تقنيات رياضية تستخدم التشفير غير المتماثل لضمان الأصالة والسلامة وعدم الإنكار. يتم إنشاء التوقيع عبر دالة تجزئة مثل SHA-256 لإنتاج قيمة فريدة، ثم تشفيرها باستخدام المفتاح الخاص للمُوقِّع. عند التحقق، يُستخدم المفتاح العام لفك التشفير والمقارنة. هذا النظام يوفر دليلاً تشفيرياً على صحة الوثيقة، بعكس صورة التوقيع التي يمكن تعديلها بسهولة دون كشف التلاعب. القرار يهدف إلى فرض معايير البنية التحتية للمفتاح العام على المؤسسات التعليمية لضمان أن تكون الشهادات الإلكترونية غير قابلة للتزوير.
وأشارت الوزارة إلى أن الجدل الدائر يعكس خلطاً بين مفهوم التوقيع الرقمي المشفر وبين ما يُمارس محلياً تحت اسم الرقمنة الصورية، حيث يتم الاكتفاء بصورة توقيع تُلصق على الوثيقة. هذا الإجراء لا يمنح أي حصانة أمنية ويجعل الوثائق عرضة للتزوير. الجامعات العالمية تعتمد على تقنيات البنية التشفيرية التي تربط التوقيع بمحتوى الوثيقة عبر بصمة رقمية، وهو ما يفتقر إليه النظام المحلي. القرار يمثل تحولاً من الرقمنة الشكلية إلى الرقمنة الجوهرية التي تبني الثقة وتمنع انهيار المصداقية في الاختبارات الدولية.
تناولت الوزارة أيضاً قضية استخدام رمز الاستجابة السريعة (QR Code) في بعض المؤسسات، مؤكدة أن الاعتماد على الرموز الثابتة يعرض الشهادات للتزوير ويضع المؤسسات والطلاب أمام مخاطر قانونية وأخلاقية. الموثوقية تتحقق باستخدام الرموز الديناميكية التي تخزن البيانات الأساسية مشفرة داخلياً وتضم توقيعاً رقمياً فريداً. وأوضحت أن المشكلة تكمن في ربط هذه الرموز بأنظمة فرعية ومجزأة، مما يحول الجامعات إلى جزر رقمية محدودة الموثوقية. القرار يهدف إلى تمهيد الطريق لإطلاق منصة وطنية مركزية موحدة تضمن استدامة البيانات وصحتها على المدى الطويل.
أكدت الوزارة أن التمسك بمعايير التوثيق الصارمة واجب وطني لحماية سمعة التعليم السوداني. رفض توثيق الشهادات الإلكترونية ذات البنية الضعيفة يحمي الخريجين من مخاطر تأخر الاعتراف الدولي أو الإضرار بالسمعة الجماعية. وأوضحت أن خطواتها تضمنت ربط 25 قنصلية سودانية بالخارج بنظام تأكيد صحة الشهادات، مما قلص زمن التحقق من أسابيع إلى ساعات. هذا الإجراء يعكس التزام الوزارة بحماية حقوق الخريجين في الأسواق التنافسية وضمان موثوقية مؤهلاتهم.
ووصفت الوزارة قرارها بأنه تأسيسي يهدف إلى الريادة الرقمية، مؤكدة أن تعريف الشهادة الجامعية يجب أن يظل محكوماً بالمعايير التقنية والأكاديمية. القرار يمثل دعوة لاستكمال بناء القاعدة الرقمية الحقيقية، بعيداً عن الحلول الجزئية التي تفتقر لأدوات الحماية القانونية والتقنية. الوزارة تسير وفق موجهات الحكومة الإلكترونية نحو مستقبل تكون فيه الشهادة السودانية رمزاً للدقة والموثوقية الرقمية.
أبرزت الوزارة إنجازاتها في مجال التحول الرقمي، حيث نجحت في حماية قواعد بياناتها الضخمة وضمان استمرارية خدمات التعليم العالي. كما أعادت إطلاق الخدمات الأساسية في ولايات النزوح والمقرات المؤقتة، وطورت أنظمة متقدمة لخدمة المغتربين والتحقق الفوري من الشهادات بالتعاون مع البعثات الدبلوماسية. وقدمت دعماً للجامعات المتضررة عبر تزويدها بنسخ من قواعد بيانات الطلاب والخريجين، مما مكنها من استئناف خدماتها التعليمية في مواقع بديلة داخل وخارج السودان.
أوضحت الوزارة أنها أنجزت عشر مراحل للقبول الجامعي في ظرف خمسة أشهر، وأسست مراكز توثيق متكاملة في مدني وكسلا وبورتسودان وأمدرمان، قبل الانتقال إلى المقر الرئيس بالخرطوم. كما حققت الربط الإلكتروني الفعال مع 172 مؤسسة جامعية داخل وخارج السودان، وهو ما يعكس التقدم الكبير في البنية التحتية الرقمية.
رغم القفزات النوعية، أكدت الوزارة أن الوصول إلى منظومة رقمية متكاملة يتوقف على التزام جميع الأطراف، خاصة الجامعات الكبرى، بتحديث أنظمتها الداخلية لتتوافق مع قواعد البيانات المركزية. القرار الأخير لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج تحليل عميق للمخاطر المرتبطة بالتوقيعات الهشة. وأشارت الوزارة إلى أن المرحلة الجديدة من التوثيق ستبدأ اعتباراً من يناير 2026، مؤكدة استعداد الإدارة العامة للقبول وتقويم وتوثيق الشهادات لتزويد الرأي العام بالمعلومات حول الخطوات المنجزة في مسار التحول الرقمي الحقيقي.






