المندرة نيوز

وجه الحقيقة_ إبراهيم شقلاوي يكتب.. الوعي الجمعي و صياغة معادلة السلام

الخرطوم=^المندرة نيوز^
لم يكن خروج السودانيين إلى الشوارع، داخل الوطن وخارجه، حدثًا عاديا بل عبر عن فعلًا سياسيًا مكتمل الأركان والدلالات، أعاد رسم الشرعية وحدد بوضوح معالم السلام الذي يريده السودانيون. ففي لحظة تداخلت فيها الضغوط الإقليمية و الدولية، وتكاثرت المبادرات التي حاولت القفز فوق جوهر الأزمة، خرج الشارع ليعلن موقفه بلا مواربة: لا تفاوض مع المليشيا، لا وصاية على القرار الوطني، ولا سلام خارج إطار الدولة.

هذا المشهد الشعبي الكاسح لا يمكن فصله عن خارطة الطريق التي أعلنها القائد العام للقوات المسلحة، رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، حين وضع السلام في سياقه الصحيح: سلامٌ مشروط بتفكيك المليشيا، وتنفيذ اتفاق جدة الموقع في 11 مايو 2023، باعتباره المرجعية الوحيدة للترتيبات الأمنية والإنسانية. اتفاقٌ نصّ صراحة على خروج المليشيا من المدن، وتسليم سلاحها، وتجميع قواتها في معسكرات مخصصة للنظر في أمرها وفق منطق الدولة لا منطق فرض الأمر الواقع.

ورغم وضوح هذا الموقف، ظلّت أصواتٌ داخلية وخارجية تحاول المزايدة على الجيش، وتقديمه بوصفه مؤسسة «مختطفة» أو معزولة عن المجتمع، في محاولة لانتزاع الشرعية الأخلاقية والسياسية من موقفه. غير أن ما جرى في 13 ديسمبر أسقط هذه السرديات دفعة واحدة، وأثبت أن ما عبّر عنه قائد الجيش لم يكن رؤية قيادة منفصلة، بل ترجمة دقيقة لإرادة شعبية عريضة لا ترغب في رؤية المليشيا في اليوم التالي للحرب، لا شريكًا، ولا قوة أمر واقع، ولا مكوّنًا سياسيًا بأي مسمى او تحت اي عنوان .

لقد خرج السودانيون ليجددوا التفويض، لا للقتال من أجل القتال، بل لحسم معركة الكرامة بوصفها معركة وجود. خرجوا ليؤكدوا أن الجيش لا يقاتل منفردًا، بل يستند إلى خزان اجتماعي واسع يمتد من المدن إلى القرى، ومن المركز إلى الهامش، ومن الداخل إلى المهجر. هنا يتحول شعار «جيش واحد.. شعب واحد» من خطاب تعبوي إلى معادلة سياسية واقعية، تُعيد تعريف ميزان القوى ومعنى الشرعية في زمن الحرب و الخزلان.

في هذا السياق، لم يكن المطلب الشعبي بتصنيف مليشيا الدعم السريع منظمةً إرهابية نزوة خطابية أو انفعالًا عاطفيًا، بل نتيجة منطقية لانتهاكات واسعة وجرائم ممنهجة طالت المدنيين في الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان ، من قتل ونهب وتهجير وترويع، ونسفت أي ادعاء بإمكانية إدماج هذه القوة في مستقبل الدولة. إن الشارع، وهو يرفع هذا المطلب، إنما يضع حدًا فاصلاً بين منطق الدولة ومنطق الفوضى، وبين السلام بوصفه تسوية سياسية هشة، والسلام بوصفه استعادة كاملة لسلطة القانون.

تكتسب هذه اللحظة أهميتها السياسية لأنها تتجاوز الداخل إلى الإقليم والعالم. فالرسالة التي بعث بها ملايين السودانيين بالأمس كانت واضحة: نحن مع جيشنا، وندعم خارطة الطريق التي أعلنها من أجل السلام، ونرفض أي مسار يتجاوز اتفاق جدة أو يفرغه من مضمونه. وهي رسالة تُربك حسابات من راهنوا على إنهاك الجبهة الداخلية، أو على تسويق المليشيا كأمر واقع لا بد من التعايش معه، أو عبوره لليوم التالي للحرب.

إقليميًا، يعيد هذا الاصطفاف الشعبي ضبط معادلات دول الجوار، ويؤكد أن السودان ليس دولة تنتظر الوصاية، بل دولة تقاتل لاستعادة تماسكها . ودوليًا، يمنح هذا الزخم الدولة السودانية ورقة ضغط سياسية وأخلاقية تعزز سرديتها بأن ما يجري حرب تُدار بالوكالة وتستهدف الموارد والسيادة، كما أقر بذلك مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك حين قال:” حرب السودان تخاض بالوكالة طمعا في الموارد الطبيعية” ، في اعتراف يضيق هامش التزييف ويغلق أبواب الحياد البائس.

في المحصلة، يصبح 13 ديسمبر محطة مفصلية في الوعي الجمعي السوداني، بوصفه، لحظة تأسيس جديدة يُعاد فيها تعريف السلام، والوطنية، ومعنى الاصطفاف. سلامٌ لا يقوم على المساومات، بل على تفكيك أسباب الحرب. ووطنيةٌ لا تُقاس بالشعارات، بل بالاستعداد لتحمل كلفة الدولة. واصطفافٌ لا يعرف الرمادية ، لأن اللحظة لا تحتملها.

هكذا وبحسب #وجه_الحقيقية ، حين تكلم الشارع، لم يرفع الحرج عن الجيش فحسب، بل أعاد تثبيت المعادلة : لا مليشيا في اليوم التالي للحرب، ولا دولة دون جيشها، ولا سلام خارج إرادة شعب قرر أن يكتب مستقبله بالفعل، لا بالانتظار. ذلك الوعي وحده الذي يعيد صياغة معادلة السلام.

دمتم بخير وعافية.
الأحد 14 نوفمبر 2025م

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *