الخرطوم=^المندرة نيوز^
تأتي الزيارة غير المعلنة التي قام بها، مطلع الأسبوع، وفدٌ سعودي رفيع إلى بورتسودان، وما تسرّب عن دعوة مرتقبة للرئيس عبد الفتاح البرهان لزيارة الرياض، في سياق إعادة تشكيل مقاربة إقليمية جديدة لملف السلام في السودان، بما يؤكد أن هناك ربما تفاهمات عملية بدأت ، قد تمثل مدخلًا لتحريك مبادرة السلام السعودية.
من حيث الشكل، عكست الزيارة اسلوب “الدبلوماسية الهادئة” التي تفضّلها الرياض في الملفات المعقّدة، حيث تُدار القضايا الحساسة بعيدًا عن الأضواء، تمهيدًا لإعلانها لاحقا عندما تنضج التفاهمات. أما من حيث المضمون، فإن قيادة الوفد بحسب ما تداوله الإعلام المحلي من نائب وزير الخارجية السعودي، تعزّز فرضية أن اللقاء حمل رسالة سياسية مباشرة على أعلى مستوى، تتصل بإعادة ضبط مسار التسوية، وربما الدعوة إلى لقاء قادم في الرياض لتثبيت إطارٍ سياسي جديد انطلاقاً من محطة جدة.
من زاوية التحليل السياسي الأرجح أن الزيارة لم تكن مجرد نقل دعوة للرئيس البرهان لزيارة الرياض، فمثل هذا الغرض لا يستدعي وفدًا رفيع المستوى، ولا طائرة خاصة، ولا هذا القدر من التكتم، ولا يأتي في لحظة إقليمية شديدة الحساسية. الدعوات.. تُنقل عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة السفير مثلآ، لا عبر “دبلوماسية الظل”.
لذلك الأقرب للمنطق السياسي أن الوفد حمل صيغة أولية لرؤية أو إطار مبادئ، لا مبادرة مكتملة، قُدِّمت شفهيًا أو في شكل نقاط مرجعية، بهدف اختبار موقف القيادة السودانية العليا منها، وقياس قابلية الدولة السودانية، بمؤسساتها السيادية والأمنية، لتداولها داخليًا. هذه الصيغة من المعلوم، لا تُعلن قبل أن تمر بمرحلة “التداول الصامت” داخل أجهزة الدولة المعنية.
وفق هذه القراءة، فإن زيارة البرهان المرتقبة، لن تكون لبدء النقاش، بل لتقديم الإجابة السودانية على ما عُرض، سواء عبر القبول، أو التحفظ، أو طلب التعديل. أي أن الرياض، في هذه الحالة، تتحرك بمنهج تدريجي: يضع في الاعتبار أهمية الاستطلاع و التشاور مع الداخل السوداني، لذلك يمكن أن نطلق عليها زيارة سياسية رفيعة لإطلاق مسار تفاوضي محتمل مع مليشيا الدعم السريع وربما قبل ذلك للتوافق حول الوسطاء المقبولين.
في المقابل يبقى احتمال أن تكون الزيارة ناقلة لدعوة فقط قائمًا نظريًا، لكنه ضعيف سياسيًا. فالسعودية بحكم تجربتها في الملف السوداني منذ منبر جدة، تجاوزت مرحلة الدعوات العامة، وانتقلت إلى مرحلة إعادة هندسة المسار بعد إدراكها أن المقاربات السابقة لم تُنتج سلامًا مستدامًا.
تكتسب هذه التحركات معناها الأعمق إذا وُضعت في سياق التحوّلات الإقليمية المتسارعة، ولا سيما إدراك المملكة لأهمية البحر الأحمر بوصفه عمقًا استراتيجيًا لا يحتمل الفراغ أو الفوضى. فالسودان بحكم موقعه الجغرافي وثقله التاريخي، يظل حجر زاوية في معادلة أمن البحر الأحمر، وأي مقاربة سعودية للسلام فيه تنطلق من معادلة مزدوجة: إنهاء الحرب، وتأمين الاستقرار الإقليمي. ومن هنا، تبدو مساعي الرياض جزءًا من رؤية تنسيق الأمن الإقليمي، للقرن الإفريقي و البحر الأحمر.
في هذا الإطار لا يمكن فصل اللقاء عن النقاشات التي أجراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول الأزمة السودانية، حيث اتفق الطرفان على ضرورة التحرّك العاجل لوقف الحرب. ترحيب البرهان بالمبادرة السعودية – الأمريكية، وإعلانه الاستعداد للتعاون الكامل معها، يمنح الرياض موقع “الضامن السياسي” المقبول داخليًا وإقليميًا، وهو دور لا يتوافر لكثير من الفاعلين الآخرين.
داخليًا تزامنت هذه التحركات مع موجة تظاهرات واسعة داخل السودان وخارجه، عبّر فيها المواطنون عن دعمهم للقوات المسلحة، في رسالة سياسية واضحة تعزّز موقع القيادة العسكرية في أي مسار تفاوضي قادم. تغريدة البرهان عشية التظاهرات و التي شكر فيها الشعب السوداني، كانت إشارة سياسية ذكية محسوبة إلى امتلاكه سندًا شعبيًا يسعى لترجمته سياسيًا في أي تسوية مرتقبة، بما يعيد تعريف ميزان القوى التفاوضي.
علي ضوء ما تقدم يمكننا أن نرجح أن الوفد السعودي لم يأتِ برسالة واحدة بل برسالتين متداخلتين: الأولى: رؤية سياسية قيد التداول يُراد لها أن تُناقَش داخل مؤسسات الدولة السودانية.
والثانية: دعوة مشروطة لزيارة البرهان للرياض، تأتي كخطوة لاحقة إذا تبلورت إجابة سودانية متماسكة على تلك الرؤية.
بهذا المعنى، بحسب #وجه_الحقيقة فإن الزيارة المرتقبة – إن تمت – سوف تكون محطة حاسمة لصياغة خارطة طريق، قد تُقدَّم لاحقًا بوصفها “مبادرة”، بينما هي في جوهرها ثمرة تفاهمات سابقة نضجت في صمت. وإذا ما كُتب لهذا المسار أن يكتمل، فقد تكون الرياض منصةً لإطلاق معادلة سلام أكثر واقعية، تستند إلى فهم عميق لتعقيدات الداخل السوداني، وتستشرف مستقبل الاستقرار في السودان و الإقليم.
دمتم بخير وعافية.
الأثنين 15 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com







