المندرة نيوز

مصعب بريــر يكتب.. سيادة البلاد في المزاد.. هل وُضِعت المجالس المهنية «خارج الخدمة» بقرار وزاري؟

الخرطوم=^المندرة نيوز^
أثار إعلان وزارة الصحة الاتحادية من مدينة بورتسودان عن إنشاء ما سُمِّي بـ«مركز التدريب التخصصي» تحت مظلة المجلس العربي للتخصصات الصحية، ومنحه سلطة اعتماد المراكز التدريبية للكوادر الطبية، موجةً من التساؤلات المهنية والقانونية العميقة. فعلى الرغم من تقديم الخطوة في إطار التطوير والتوسع في التدريب، إلا أن القراءة المتأنية للتاريخ المؤسسي والمرجعية القانونية تكشف عن إشكالات جوهرية تمس صميم السيادة المهنية والتنظيمية للدولة السودانية.

من الناحية الواقعية، لا يُعد هذا المركز كياناً جديداً بالمعنى المؤسسي؛ إذ سبق أن وُجدت مراكز تدريبية مرتبطة بالمجلس العربي داخل السودان خلال السنوات الماضية، وكانت تعمل في إطار تنسيقي وتعليمي محدود، لا في موقع الجهة السيادية المعتمِدة. وعليه، فإن إعادة طرح المركز اليوم بصلاحيات موسَّعة يوحي بعملية إعادة إنتاج لدور قديم، لكن بلبوس قانوني جديد يتجاوز حدود التفويض المعتاد.

الإشكال الأكبر لا يكمن في التعاون الإقليمي ذاته، فالمجلس العربي للتخصصات الصحية كيان مهني إقليمي معتبر، ساهم السودان في تأسيسه ورفده بالخبرات منذ انطلاقته، بل تكمن المعضلة في منح سلطة اعتماد وطنية لجهة تعمل تحت مظلة إقليمية، في ظل وجود مؤسسات سودانية أصيلة، أُنشئت بقوانين نافذة، وتتمتع باختصاصات حصرية لا يجوز مصادرتها أو تهميشها بقرار إداري.

فقانون المجلس القومي للتدريب (الصادر في عام 2013) يمنح المجلس ولاية واضحة على وضع السياسات العامة للتدريب المهني، والتنسيق والإشراف على مراكز التدريب داخل البلاد. كما أن قانون المجلس الطبي السوداني – وهو من أقدم القوانين المهنية في السودان، وقد خضع لتعديلات متتالية لتعزيز استقلاليته – ينيط بالمجلس مسؤولية الإشراف على تدريب الأطباء واعتماد المؤسسات الصحية كمراكز تدريب، ضماناً لجودة الممارسة وسلامة المرضى. وينسحب الأمر ذاته على المجالس الصحية والمهنية الأخرى، كلٌ بحسب اختصاصه.

إن تجاوز هذه الأطر القانونية يفتح الباب أمام ازدواج خطير في الصلاحيات، ويُربك منظومة الاعتماد، ويخلق معايير متضاربة قد تنعكس سلباً على جودة التدريب والممارسة المهنية. فكيف لجهة إقليمية – مهما كانت مكانتها – أن تحل محل مؤسسات وطنية سيادية في اعتماد مراكز تعمل داخل حدود الدولة، وتخضع لقوانينها؟

الأخطر من ذلك أن هذا المسار يُضعف المؤسسات الوطنية التي راكمت خبرات ممتدة لعقود، ويحوّل دورها من جهة مقرِّرة إلى مجرد طرف تابع أو منفِّذ. وهو مسار لا يخدم مصلحة النظام الصحي، ولا ينسجم مع مبادئ الحكم الرشيد أو سيادة القانون.

بعد اخير :

خلاصة القول، إن الحفاظ على السيادة المهنية لا يعني الانغلاق أو رفض التعاون الإقليمي، بل يقتضي ضبط هذا التعاون في إطاره الصحيح: الدعم الفني، وتبادل الخبرات، والاعتراف المتبادل، دون المساس بالاختصاصات القانونية للمجالس الوطنية. المطلوب اليوم ليس إنشاء أجسام موازية، بل تمكين المجالس القائمة، ودعمها تشريعياً ومالياً، لتنهض بدورها الرقابي والاعتمادي بكفاءة.

وأخيرًا، سيادة الدولة لا تُنتقص دفعة واحدة، بل تبدأ بالتفريط في الاختصاصات، ثم تتآكل بصمت. وحين تُفرَّغ القوانين من مضمونها، تصبح المؤسسات مجرد أسماء… وتصبح السيادة نفسها موضع مزاد.

ونواصل… إن كان في الحبر بقية، بمشيئة الله تعالى.

﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾
حسبنا الله ونِعم الوكيل
اللهم لا تُسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، يا أرحم الراحمين.

#البُعد_الآخر | مصعب بريــر
الثلاثاء | 23 ديسمبر 2025م

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *