الخرطوم=^المندرة نيوز^
في زاويةٍ منسية من حيٍّ شعبيٍّ عتيق، حيث تتعانق البيوت المتلاصقة وتعلو رائحة الخبز الساخن كنداءٍ يوميٍّ للحياة، يقف عم أحمد خلف فرنه الصغير. ثلاثون عاماً قضاها هناك، لا يحصي الأرغفة بقدر ما يحصي الوجوه، ولا يزن الدقيق بقدر ما يزن الحكايات. كان يعرف، ببصيرةٍ لا تُدرَّس، أن للناس جوعاً آخر غير جوع المعدة؛ جوعاً للستر، وللكرامة، ولمن يراهم دون أن يحرجهم.
كان الموجَّه المتقاعد يمرّ كل صباح تقريباً، بملابس أنيقة أرهقها الزمن، يقف بعيداً عن الصف، يفرك ما تبقى في جيبه من عملاتٍ لا تكفي رغيفاً، ثم يمضي صامتاً. لم يكن يطلب، ولم يكن يشكو، لكن الجوع كان يكتب نفسه على ملامحه. التقط عم أحمد الإشارة، وفهم أن هذا الرجل لا يحتاج صدقة تُثقل روحه، بل يحتاج حيلةً تُبقي رأسه مرفوعاً. عندها وُلدت الفكرة: نداءٌ مرح، وصوتٌ يملؤه الفرح، و”جائزة“ تُمنح للزبون رقم مئة. هكذا تحوّل الرغيف من إحسانٍ جارح إلى استحقاقٍ كريم، ومن عطاءٍ ثقيل إلى فرحٍ خفيف. انفرجت الملامح، وابتسمت العينان، وعاد الرجل بخطواتٍ أهدأ، وقد شُبع الجسد ولم تُمسّ الكرامة.
الخير، حين يُصاغ بذكاء، يصبح معدياً. شاهدت دكتورة جامعية المشهد، ففهمت الرسالة من دون شرح. لم تُصفّق ولم تُشِر، بل وضعت مالاً على الطاولة قائلة: “أريد الدخول في المسابقة”. ومن تلك الجملة البسيطة، تمدّدت الفكرة. صارت سبورة المخبز دفترَ قيدٍ للوفاء، يُدوَّن عليه ما دُفع مقدّماً لمن سيأتي بلا مال. طفلٌ يضع ما تبقى من مصروفه، عاملٌ يقتطع من يوميته، وجيرانٌ يبتسمون لأنهم شاركوا في عملٍ لا يجرح أحداً. صار المخبز مكاناً لترميم الأرواح قبل إشباع البطون، وصار المحتاج يأخذ حقه برأسٍ مرفوع، كأنه يسترد أمانةً في رقبة مجتمعٍ لم يخذله.
بلغ الوفاء ذروته حين أهدى الموجَّه المتقاعد، قبيل رحيله، أغلى ما يملك لعم أحمد: كتاباً نادراً، بإهداءٍ مختصرٍ وعميق: “إلى من خبز الحب قبل الخبز… شكراً لأنك لم تجعلني أنام جائعاً، ولم تجعلني أنام مكسوراً”. كانت تلك الكلمات ميراثاً معنوياً أثمن من المال، ووصيةً لأبناء عم أحمد: السبورة أهم من الخزنة، والستر أثمن من الربح.
بعد اخير :
خلاصة القول، هذه الحكاية ليست دراما شعبية عابرة، بل درسٌ عمليٌّ في “التكافل الواعي” الذي يحفظ كرامة الإنسان قبل أن يسدّ حاجته. نحن مدعوون، أفراداً ومؤسسات، إلى تبنّي مبادراتٍ تُتقن فن العطاء بذكاء، وتزرع الأمل من دون ضجيج. فليس المطلوب ثرواتٍ طائلة، بل قلوباً رحيمة وعقولاً مبدعة.
وأخيرًا، حين نفعل ذلك، لن يبيت بيننا جائعٌ أو مكسور، وسنكتشف أن الإنسانية، حين تُخبَز على نارٍ هادئة، تُشبع الجميع.
ونواصل… إن كان في الحبر بقية، بمشيئة الله تعالى.
﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾
حسبنا الله ونِعم الوكيل
اللهم لا تُسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، يا أرحم الراحمين.
#البُعد_الآخر | مصعب بريــر
الأربعاء | 24 ديسمبر 2025م







