المندرة نيوز

مصعب بريــر يكتب..الوطن ليس غنيمة: كيف قادت صفقات السلطة بلدًا بأكمله إلى حافة الهاوية ..؟!

الخرطوم =^المندرة نيوز^

لم تعد أزمات السودان مجرّد تعثّر عابر في طريق التحول السياسي، بل تحوّلت إلى منظومة متشابكة أفرغت العمل العام من رسالته، ودفعت به من فضاء “الخدمة” إلى منطق “الفرصة”. فالتجربة السياسية منذ الاستقلال تكشف مسارًا تدريجيًا نقل الأحزاب من كونها أدواتٍ للتعبير عن تطلعات الناس إلى كياناتٍ تنشغل بحسابات النفوذ وتقاسم المكاسب، حتى صار المبدأ يتراجع كلما تقدّمت المنفعة.

تتشكل جذور هذا الواقع من الإرث الإداري الذي خلّفه الاستعمار؛ جهازٌ صُمم أساسًا للسيطرة أكثر مما صُمم للتنمية والعدالة. ومع أن الفرصة كانت سانحة لبناء عقد اجتماعي جامع يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، فإن كثيرًا من النخب اتجهت إلى إدارة الولاءات بدل بناء المؤسسات. ومع مرور الوقت، أصبح تداول المناصب والموارد أداة لضمان البقاء، لا وسيلةً لتحسين حياة المواطنين. وبذلك نشأ “اقتصاد سياسي” هش، ترتفع فيه قيمة الموقع وتنخفض فيه قيمة الخدمة العامة.

لم تكن التحالفات السياسية غالبًا ثمرة رؤى اقتصادية أو اجتماعية مدروسة بقدر ما كانت نتاج حسابات ظرفية. ومع كل دورة اضطراب، تتقدم الصفقات القصيرة المدى على البرامج الطويلة المدى، فتتآكل ثقة الناس وتُفتح الثغرات أمام التأثيرات الخارجية وتضيع البوصلة الوطنية. كما أن التيارات الأيديولوجية المختلفة — يمينًا ويسارًا — دخلت في دورات تصادم ومساومات أضعفت الحياة العامة وأرهقت الدولة، من دون أن تنجح في بناء منظومة حكم مستقرة أو حماية البلاد من الانزلاق نحو أزماتٍ متفاقمة.

وفي العقد الأخير، خاصة بعد انفصال الجنوب، بلغ هذا المسار مرحلة حرجة. فبرغم تضحيات المجتمع وتطلعات شبابه، عادت أنماط إدارة الماضي إلى الواجهة: تفاوضات مغلقة، محاصصات متشابكة، وخطاب يَعِد بالإصلاح بينما يبقى المواطن محاصرًا بين الغلاء والنزاعات والنزوح. وتحت ضغط الواقع، أصبح الحفاظ على ما تبقى من تماسك الدولة مهمةً عاجلة لا تحتمل المجازفات ولا التلاعب بالشعارات.

والخروج من هذا النفق ممكن إذا جرى الانتقال من إدارة الأزمات إلى بناء قواعد ثابتة. يبدأ ذلك بترسيخ شفافية الحياة الحزبية، عبر قوانين عادلة تُلزم الإفصاح المالي، وتربط شرعية أي كيان سياسي بقدرته على تقديم برامج واقعية قابلة للتقييم، لا بحجم الولاءات التي يحتشد بها. ثم يأتي التحول من “الشرعية الخطابية” إلى “شرعية الإنجاز”، ببناء مؤسسات مهنية مستقلة — قضاء وخدمة مدنية وجيش وشرطة — تحمي القانون وتمنع تحويل موارد الدولة إلى غنائم. وإلى جانب ذلك، ينبغي تحصين القرار الوطني من الارتهان لأي أجندات خارجية، من خلال وضوح الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، وإشراك المجتمع في الرقابة والمساءلة.

بعد اخير :

خلاصة القول، إن السودان لا يحتاج إلى قطيعة صاخبة بقدر ما يحتاج إلى مراجعة رشيدة وشجاعة، تُصحح أخطاء الماضي من دون انتقام، وتفتح الطريق لشراكة وطنية واسعة لا تُقصي أحدًا ولا تمنح أحدًا حصانة فوق القانون..

وأخيرًا، الفرصة ما تزال قائمة، لكنها تضيق كل يوم. والمستقبل لن يكون آمنًا إلا إذا اتفق الجميع على قاعدة بسيطة: الوطن ليس مجالاً للمزايدة ولا ساحة لتصفية الحسابات، بل مركب واحد — إن نجا نجا الجميع، وإن غرق فلن ينجو أحد.

ونواصل… إن كان في الحبر بقية، بمشيئة الله تعالى.

﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾
حسبنا الله ونِعم الوكيل
اللهم لا تُسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، يا أرحم الراحمين.

#البُعد_الآخر | مصعب بريــر
الجمعة | 26 ديسمبر 2025م
musapbrear@gmail.com

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *