أيام في فاشر السلطان
بروفيسور إبراهيم محمد آدم
الخرطوم=^المنورة نيوز^
للمدن في ذاكرتي مكانة لكلٍ، واقعاً أو تخيلاً ، وبالتأكيد حملت في ذهني لمدينة الفاشر صورة مشرقة مضيئة، رغم أنني لم أزرها من قبل مع تشرفي بزيارة توأمها نيالا البحير، وهي كذلك الأولى بالزيارة لأنها عاصمة سلطنة دارفور الإسلامية، ذات البعد السابق لزمانها ، دارفور منارة القرآن، المحمل السنوي، وآبار علي دينار وأوقافه بالحجاز، ورواق دار فور بالأزهر الشريف، والسلطان تيراب البطل الصبور، و بداخل إطار هذه الصورة، يتربع الشهيد البطل السلطان علي دينار ،وهو يخطط ليهب مسرعاً للقاء ربه راضياً مرضياً متقدماً جنوده في بسالة نادرة، حين جاء أحد رجاله بنبأ يقين: ( سيدي السلطان تُرك جو في سيليه)، أي أن الترك قد وصلوا سيليه وهي منطقة تبعد نحو عشرة كيلو متراً تقريباً شرق الفاشر، والترك في السودان يقصد بهم حينها كل الأجانب.
في الطريق إلى المطار كان الصباح باهي لونه هادئة نسماته الخريفية المنعشة، وأنا وأخي احمد نطوي المسافة طياً، ونحن نتجاذب أطراف الحديث، أحمد أنيس جيد، وأخ أصغر وصديق وزميل، لا يؤثر فارق السن في أنسنا ،وعندما وصلنا كل شيىء قد تم ترتيبه بواسطة شباب جامعة الفاشر بالخرطوم إبراهيم وصحبه، الدخول إلى البوابة لم يأخذ وقتاً، غير أن ما آثار انتباهي حينها وجود سفريات منتظمة ليوناميد التي خلف بعدها اليونتامس وكأنها أحدى خطوط الطيران المعتمدة،كما لها مطاراً خاصاً بها امتداداً لمطار الفاشر الأصل، وفي تقديري أن ذاك كان خياراً أفضل حتى لا تتآكل مطاراتنا بسفرياتها التي لا طائل من وراءها.
كان ذلك جلياً عندما هبطنا بسلام في مقصدنا، ركبنا بص المطار الداخلي، ثم اكتشفنا أن من لم يستغله وصل قبلنا لقرب المسافة،فنزلنا من عليه وترجلنا نتنسم هواءاً نقياً.
قائد ركب المقدمة صديقي وأستاذي د. أسامة محمد سعيد أمين الإعلام للإتحاد المهني لأساتذة الجامعات والمعاهد العليا رتب الأمر جيداً ، فكانت الزيارة فرصة لتفقد معالم المدينة، وكان مبتغانا الأول متحف، وقصر، وضريح السلطان علي دينار وهو آخر من استسلم للإحتلال البريطاني للسودان وظل يساند الخلافة الإسلامية بتركيا حتى استشهاده، وذاك تاريخ يحكي عظمة قامات بلادي للناظرين، وعبرة لأولي الأبصار .
ولأننا التزمنا أدب استئذانه في التجوال داخل المدينة وتحقيق مرامينا، كان أول ما شهدنا على حائط القصر الخارجي، إستراتيجية السلطان، يا الله، كان فعلاً سابقاً لعصره، فقد ظهرت موضة وضع ملخص إستراتيجية المؤسسات على جدرانها قبل نحو خمسة عشر سنة تقريباً، وها هي موجودة على قصر السلطان قبل أكثر من مائة عام، فتمعنوا معي كلماتها، وأنقلها لكم كما صورتها بجهاز الهاتف المحمول: (حياتها باطلة ونعيمها يزول، فلو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً باقياً، فجميع المخلوقات خلقت لأجله، ولولاه ما خلقت جنة، ولا نار،ولا قلم، ولا سماء،ولا ارض،ولا شمس ولا قمر، كل شيىء فانٍ، وليس يبقى إلا وجه الله). الله عليك يا سيدي تخدمنا حياً وميتاً فقد كانت استراتيجيك هذه جزءاً أساسياً من موضوع محاضرتنا عن التخطيط الاستراتيجي لمؤسسات التعليم العالي، واستهلك جل نقاش المتدربين من اساتذة جامعة الفاشر في تلك الدورة التي أقامها الإتحاد المهني العام لاساتذة الجامعات والمعاهد العليا السودانيين.
بعد انتهاء عملنا الرسمي دخلنا سوق حجر قدوا ليجعلنا ذلك نعود مرة أخرى كما في أدبيات أهل الفاشر مثلهم مثل أهل مدن أخرى .عرفونا بمعالم ومؤسسات المدينة، ثم واصلنا المسير إلى سوق المواشي والميناء البري، حيث السفر إلى الخرطوم بالبصات عبر طريق الإنقاذ الغربي قد أضحى أمراً ميسوراً، وبعد أن انتهينا من المحاضرات أبى صديقي المقدم عبد الصادق إسحق إلا أن نكمل الجولة، فزرنا معسكر النازحين في أبو شوك، وتحدثنا عما رأيته واقعاً منذ أن ازدادت نعمة الأمن من الخوف، واستشعر الجميع أهمية السلام و أقبلوا على الإنتاج بجد ليعيدوا دار فور سيرتها الأولى فقد بدأ أوان الكلام عن العمل ولم يعد هناك وقت للانتظار فقد ردد الفنان الكبير عمر إحساس كثيراً وردد معه الناس ( دار فور بلدنا راجيانا نعمل لكن كلامنا لسه)، فكل دارفور تصلح موئلاً منتجاً لكل خيراتها التي تتفجر إنتاجاً في كل المجالات الزراعية والصناعية فهي غنية بالمنتجات الزراعية والثروات الحيوانية وجل الموارد المعدنية ذهباً ونحاساً ويورانيوماً وحديداً، فقط تحتاج إلى الاستقرار، إذ يكفي أن استراحتنا التي حللنا بها تحيطها أشجار الفواكه التي من كل لون أخذت نصيب، خاصة البرتقال الذي كنت أعتقد قبلها أنه فقط على سفوح جبل مرة، صدقوني لم أتذوق برتقالاً مثله قط من قبل.
في مساء نفس اليوم نعمنا بدعوة فاخرة نظمها إبني الدفعة الأخ المقدم عبد الصادق والدكتور صالح الطاهر صالح الذي خدم أهله كثيراً فأنشأ مستوصفاً ممتازاً هناك ويقدم هو أيضا كاختصاصي خدماته عبر المستشفى التخصصي للولادة، والمستشفى التعليمي .”كريمسون” هو اسم المنتجع الذي بهرتنا أضواءه، زاهي وهادئ وجميل أسسه رجل الأعمال الوطني الراحل علي محمود ويديره الآن أبناؤه من بعده بكل كفاءة واقتدار. عزيزتي الفاشر عدنا منك وبالنفس شيىءٌ من حتى، ممزوج بأمل تجدد اللقاء..