الخرطوم=^المندرة نيوز^
تُعدّ مفوضية حقوق الإنسان في السودان إحدى الركائز الوطنية التي يُفترض أن تضطلع بدور فعّال في حماية حقوق المواطنين، لا سيما في ظل الحرب الدائرة منذ أبريل 2023، والتي أفرزت موجة غير مسبوقة من الانتهاكات. إلا أن المفوضية رغم حيادها السياسي المشهود، تبدو – للأسف – محصورة في إطار العلاقات العامة أكثر منه حضورًا ميدانيًا فعليًا بين المدنيين الذين يرزحون تحت وطأة الحرب.
فأداء المفوضية لا يزال يميل إلى الطابع الرسمي البروتوكولي، أكثر من انخراطه المهني والميداني مع ضحايا الانتهاكات. ففي الوقت الذي يحتاج فيه المدنيون، الذين يتعرضون لأبشع صنوف الجرائم والانتهاكات، إلى مؤسسة تقف إلى جانبهم فعليًا، نلاحظ أن وجود المفوضية على الأرض محدود، بل يكاد يكون غائبًا في أكثر المناطق تضررًا.
وعلاوة على ذلك، يظل الحضور الرقمي والإعلامي للمفوضية دون المستوى المأمول؛ فلا أرقام ساخنة مخصصة لتلقي البلاغات، ولا قنوات إلكترونية نشطة أو فعّالة للتواصل. إن إعادة تفعيل الموقع الإلكتروني الرسمي للمفوضية، وتحديثه باستمرار، وتحسين ظهوره في محركات البحث، وتفعيل الحضورعلى منصات التواصل الاجتماعي، يعتبر ضرورة مهنية ملحّة.
فالميدان الحقيقي اليوم هو حيث يوجد الناس في الأحياء والمدن، على شبكات التواصل، وفي ساحات النزوح. وهناك ينبغي أن تكون المفوضية حاضرة، بخطابها، ووثائقها، وآلياتها، واستجابتها. وتنسيقها مع الشركاء.
إن المهنية في مجال حقوق الإنسان لا تكتمل بالحياد وحده، بل تتطلب انخراطًا نشطًا مع آلام الناس ومعاناتهم، عبر أدوات تواصل فعّالة، وتوثيق دقيق، ومتابعة قانونية تُترجم الشهادات إلى مساءلات. فالحفاظ على الحياد لا يعني الابتعاد، بل يستدعي اقترابًا شجاعًا وواعيًا ومنتبها ، حتى لا تتحوّل المفوضية إلى مؤسسة تُشاد بها النصوص وتغيب عنها الوقائع.
فالعمل الإنساني في أزمات معقّدة كالتي يشهدها السودان لا يكتمل إلا بحضور ميداني مستمر وفعّال، يتجاوز حدود التوثيق إلى الرصد المباشر، ومواكبة الشهادات، وتقديم الدعم القانوني والنفسي للضحايا والأسر المتضررة. فالمفوضية مطالبة بأن تكون جسرًا حيًّا بين الضحية والعدالة، يتيح للمواطنين الإحساس بوجود الدولة في لحظات الخطر، ويُعزّز ثقافة الشفافية والثقة، عبر أدوات اتصال حديثة تشمل خطوطًا ساخنة، وتطبيقات ذكية تعمل على مدار الساعة، وموقعًا متفاعلًا، وحضورًا رقميًا نشطًا قادرًا على الاستجابة السريعة والفعالة.
إن غياب هذه البنية التحتية النشطة يُعيق قدرة المفوضية على تقديم استجابة إنسانية عاجلة، ويُضعف مصداقيتها في نظر الضحايا والمجتمع الدولي على حد سواء؛ إذ لا تكفي التقارير اللاحقة بعد مرور الزمن على الانتهاكات، بل ينبغي أن تكون الاستجابة حقيقية ومتاحة على مدار الساعة، مع تواجد دائم في مناطق النزاع لتوثيق الأحداث والتواصل المباشر مع المدنيين ودعمهم .
وتُقدّم التجارب الإقليمية القريبة دروسًا مفيدة يمكن للمفوضية السودانية الاستفادة منها، لا سيما التجربتان الرواندية والليبية، اللتان خاضتا أزمات داخلية عميقة أثّرت بشكل مباشر على مؤسسات حقوق الإنسان.
ففي رواندا، شكّل الحضور الميداني والتواصل الشفاف ركيزة أساسية في دعم جهود المصالحة الوطنية ومرافقة الضحايا. واستطاعت مفوضية حقوق الإنسان هناك أن تؤدي دور الجسر بين المجتمع والدولة، مُقدّمة نموذجًا يُحتذى في تمكين الضحايا وتحقيق المساءلة القانونية والإنسانية “كما في تجربة اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة NURC، وبعثة HRFOR الأممية 1995” .
أما في ليبيا، فقد كشفت الفوضى التي أعقبت سقوط النظام عام 2011 عن هشاشة مؤسسات حقوق الإنسان الرسمية، التي عجزت عن مواكبة الانتهاكات المتسارعة، ما أفسح المجال أمام الهيئات المدنية والدولية لتوثيق الأحداث، لكنه أدى أيضًا إلى فقدان الدولة السيطرة على الملف الحقوقي، وعجزها عن حماية المدنيين بفعالية “بحسب تقارير الأمم المتحدة وهيومن رايتس ووتش” .
وتؤكد هذه التجارب أن المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان بحاجة إلى استقلالية فعّالة، وحضور ميداني مستدام، وبنية معلوماتية وتقنية متقدمة تُمكّنها من التواصل المستمر والفعّال مع المواطنين. كما تبرز أهمية تحصين المفوضية من التجاذبات السياسية، لتكون صوتًا حيًّا للضحايا، لا جهة رسمية متفرجة، وهو ما يستدعي تطوير استراتيجيات عمل ديناميكية قائمة على أدوات حديثة في الاتصال والتوثيق والمتابعة.
لذا، فإن المفوضية القومية لحقوق الإنسان في السودان أمام تحدٍ جوهري يتمثل في تحويل وجودها من مجرد هيئة رسمية ذات طابع شكلي إلى مؤسسة تفاعلية قادرة على الاستجابة الفورية للحالات الإنسانية، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، وبناء جسور الثقة بين المواطن والدولة، في وقت يتفاقم فيه النزاع وتتزايد الانتهاكات.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، يمكن القول إن حماية حقوق الإنسان في السودان لن تتحقّق إلا عبر مفوضية تملك الحضور الميداني الفعلي، وتُوفّر آليات تواصل سريعة وآمنة للضحايا، وتستخدم التكنولوجيا الحديثة للبقاء قريبة من الواقع المتغيّر، قادرة على مواجهة تحديات المرحلة بأدوات فعّالة، تضع الإنسان وحياته في صُلب أولوياتها.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 15 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com