المندرة نيوز

الشرعية في مفترق الطريق – من الثورة إلى الدولة.. ️ بقلم: الطيب خميس

الخرطوم=^المندرة نيوز^
في لحظات التحول الكبرى التي تعيشها المجتمعات بعد الثورات، يطفو سؤال الشرعية على السطح، ويصبح محورًا للصراع والخلاف، سواء بين الفاعلين السياسيين أو بين الدولة والمجتمع. وبينما تعيش الدولة حالة من السيولة القانونية، وتغيب المرجعيات الدستورية المستقرة، تظهر “الشرعية الثورية” كبديلٍ عاجلٍ لتعبئة الجماهير وإدارة المرحلة الانتقالية.
لكن هذه الشرعية، رغم مشروعيتها الأخلاقية والتاريخية، لا تصلح لأن تكون إطارًا دائمًا لبناء دولة. إنها، ببساطة، مؤقتة بطبيعتها، ومتقلبة في مضمونها، وتُهدد في حال استمرارها بخلق نوع من الفوضى الدائمة، حيث لا قانون ثابت، ولا مؤسسات محايدة، ولا رقابة فعلية.
لقد عشنا – نحن الذين كنا في قلب الحركة الثورية – هذا التداخل والتضارب عن قرب، وانتقلنا من الميدان إلى مؤسسات الحكم، وواجهنا السؤال الأصعب: هل نحن قادة ثورة أم رجال دولة؟
في هذا المقال، الذي يمثل افتتاحية سلسلة فكرية سياسية أرجو أن تفتح حوارًا مسؤولًا، سأضع أمام القارئ فكرة محورية: لقد آن الأوان أن نغادر منطق “الشرعية الثورية”، وأن نؤسس لشرعية دستورية مستقرة، تحفظ الدولة من الانهيار، وتحفظ الثورة من العبث.
الثورة لحظة… والدولة مشروع
الثورة فعل استثنائي. انفجار غير متوقع. لحظة انهيار وتحدٍ، تُسقط نظامًا وتفتح المجال لولادة جديد. لكنها لا تبني الدولة، بل تفتح باب البناء.
الخلط بين الثورة والدولة كارثي. فحين نُطيل أمد “الشرعية الثورية”، نجد أنفسنا نحكم بالغضب، لا بالقانون. نوزع المناصب بميزان الولاء لا الكفاءة. نُعاقب باسم الثورة، لا باسم العدالة. وهكذا، تتآكل الثورة من الداخل، وتنزلق الدولة إلى الفوضى.
الشرعية الدستورية ليست خيانة للثورة
البعض، من رفاقنا، ما يزال ينظر إلى المطالبة بالشرعية الدستورية كأنها “خيانة” لدماء الشهداء، أو “انحناء” للعالم القديم. لكن الحقيقة أن الثورة نفسها كانت تنادي بدولة القانون. كنا نهتف: “حرية، سلام، وعدالة”، ولم نقل “وصاية أبدية للثوار”.
الشرعية الدستورية لا تنكر الثورة، بل تترجمها إلى عقد اجتماعي جديد. إنها السبيل لتحويل مطالب الناس إلى نصوص وقوانين ومؤسسات قابلة للمحاسبة.
من تجربة شخصية…
كنت جزءًا من حراك مسلح، ثم دخلت البرلمان. رأيت بأم عيني كيف تصطدم شعارات الثورة بالواقع التشريعي والمؤسسي. رأيت من يرفع شعارات التغيير، لكنه لا يحتمل الجلوس في قاعة حوار. ومن يطالب بالديمقراطية، لكنه يرفض الانتخاب إذا لم يضمن النتيجة.
التغيير الحقيقي لا يُقاس بحجم الهتاف، بل بمدى القدرة على تأسيس دولة تستمر بعد ذهاب القادة والثوار جميعًا. ومن لم يؤسس لذلك، فقد خذل الثورة من حيث لا يدري.
دعوة للحوار لا للاتهام
أكتب هذا الكلام لا بلسان ناقد من الخارج، بل كرفيق درب يعرف ألم التضحية، ومرارة الفقد، وطموح الحلم. لكنني أيضًا، بصدق، أخشى على حلمنا من أن يتحول إلى كابوس بسبب غياب الرؤية.
هذه السلسلة من المقالات ليست مرافعة ضد الثورة، بل من أجلها. وهي ليست دفاعًا عن الدولة القديمة، بل عن دولة جديدة تستحق أن تُبنى على أسس سليمة.
إلى اللقاء في المقال الثاني…
في المقال القادم، سأتناول مفهوم “الشرعية الثورية”: متى تنشأ؟ ولماذا؟ وما حدودها؟ ولماذا لا يجوز أن تستمر إلى ما لا نهاية؟
إن أردنا للثورة أن تنتصر فعلًا، فعلينا أن نؤسس لشرعية لا تستند إلى “من شارك”، بل إلى “من يحترم القانون ويحمي الدستور”.
والسلام.

(“هذا المقال جزء من سلسلة بعنوان: لابُد من الخروج من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية )

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب