الخرطوم=^المندرة نيوز^
تمثل مسألة تمويل التعليم العالي تحديًا يواجه معظم دول العالم، حيث تتصارع الحكومات بين ضرورة توفير تعليم عالٍ جيد وميسور للجميع، وضمان استدامة الموارد المالية للجامعات لمواصلة التميز الأكاديمي والبحثي. وقد طورت عدة دول نماذج مبتكرة وناجحة في تدبير الرسوم الجامعية، توفق بين هذه الأهداف وتقدم دروسًا قيمة يمكن الاستفادة منها.
اولا : النموذج الاسكندنافي: التعليم المجاني كاستثمار في المستقبل
تتبنى دول مثل النرويج وألمانيا النمسا نظامًا قائمًا على إلغاء الرسوم الدراسية تمامًا للطلاب المحليين والدوليين في الجامعات الحكومية. يعتبر هذا النموذج استثمارًا في رأس المال البشري، حيث تؤمن هذه الدول أن التعليم المجاني يحقق مساواة الفرص وينتج قوى عاملة عالية المهارة، مما يعود بفوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة على المدى الطويل. يتم تمويل هذا النظام من خلال ضرائب مرتفعة ولكنها مقبولة اجتماعيًا نظرًا للخدمات العامة الممتازة التي تقدمها الدولة، بما في ذلك التعليم.
ثانيا : النموذج الأسترالي: القروض الميسرة والسداد المرن
تشتهر أستراليا بنظام “مساهمة الطالب” الذي يعتمد على منح قروض حكومية ميسرة للطلاب لتغطية الرسوم الدراسية. تبدأ عملية السداد فقط عندما يتجاوز دخل الخريج السنوي حدًا معينًا، ويتم خصم المدفوعات تلقائيًا من خلال النظام الضريبي. يخفف هذا النظام العبء المالي المباشر على الطالب وأسرته، ويربط between سداد القرض بقدرة الخريج المالية، مما يجعله نموذجًا عادلًا يحقق مشاركة الطالب في التكلفة دون أن يكون حاجزًا أمام الالتحاق بالجامعة.
ثالثا : النموذج السنغافوري: الشراكة بين الدولة والطالب
في سنغافورة، تتبنى الدولة فلسفة “التمويل المشترك”. تتحمل الدولة الجزء الأكبر من تكلفة التعليم (قد تصل إلى 75%)، ويدفع الطالب الرسوم المتبقية. ومع ذلك، تقدم الحكومة مجموعة واسعة من المنح والقروض التي تغطي في كثير من الأحيان حصة الطالب نفسه، خاصة للطلاب المتفوقين أو ذوي الاحتياجات الخاصة. يشجع هذا النموذج على الإنجاز الأكاديمي ويضمن أن تكون التكلفة على الأسرة رمزية أو معدومة بالنسبة للجميع، مع ضمان جودة عالية للتعليم.
واخيراً ، يجب الانتباه إلى أن نجاح النماذج المشار اليها مرهون بالسياق الوطني، لا يوجد نموذج واحد يناسب جميع الدول. فنجاح هذه التجارب مرتبط بسياقها الاقتصادي والاجتماعي وثقافة الثقة بين المواطن والدولة. النموذج الاسكندنافي يعتمد على قدرة ضريبية عالية، بينما يعتمد النموذج الأسترالي على نظام ضريبي متطور وفعال. المشترك بين جميع هذه النماذج هو:
· المرونة: تقديم خيارات تمويلية متنوعة.
· العدالة: ضمان ألا تكون التكلفة عائقًا أمام الموهبة والاجتهاد.
· الاستدامة: ضمان تدفق الموارد للجامعات للحفاظ على الجودة.
الدرس الأهم هو أن تطوير نظام لتمويل التعليم العالي يجب أن يكون جزءًا من رؤية استراتيجية شاملة، تضع العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية في صلب أولوياتها، مع تصميم آليات تناسب الخصوصيات المحلية وتضمن مستقبلاً تعليميًا مشرقًا للأجيال القادمة.
بعد اخير :
خلاصة القول، لم يعد تبني نظم تمويل مرنة لرسوم التعليم العالي في السودان خيارًا ثانويًا، بل أصبح ضرورة استراتيجية ملحة وطارئة. إن الوضع الراهن، بجموده، يهدد بإقصاء آلاف العقول السودانية الواعدة تحت وطأة العجز المالي، مما يتسبب في هدر هائل للطاقات البشرية التي تُعدّ أهم موارد البلاد على الإطلاق. إن الدعوة إلى إرساء أنظمة تمويل مبتكرة – تجمع بين القروض الميسرة ذات السداد المؤجل المرتبط بالدخل، والمنح التنافسية، وبرامج العمل والدراسة، وشراكات القطاع الخاص – ليست مجرد دعوة لإدارة أزمة مالية، بل هي استثمار جريء في رأس المال البشري، وهو حجر الزاوية لأي نهضة تنموية حقيقية. إنها ضمانة لاستدامة جودة التعليم الجامعي والحفاظ على مكانته، وهي وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية بضمان تكافؤ الفرص لكل موهبة وقادرة، بغض النظر عن خلفيتها الاقتصادية.. واخيراً، إن التحدي كبير، لكن التجارب الدولية الناجحة تقدم لنا خارطة طريق واضحة. النجاح لن يتأتى إلا من خلال إرادة سياسية راشدة، وحوكمة رشيدة شفافة، وتصميم مؤسسي دقيق يبث الثقة في جميع الأطراف. حان الوقت لتحويل التحدي إلى فرصة، ولبناء نظام تمويلي يكون قاطرة للتنمية، وسدًا منيعًا يحفظ عقول أبناء السودان، ويحول جامعاتنا من مراكز تكديس للخريجين إلى مصانع حقيقية لصناعة المستقبل والتنمية المستدامة. المستقبل ينتظر خطوة شجاعة، والبدء الآن هو مسؤوليتنا الجماعية تجاه أجيال الغد، السيد / رئيس الوزراء، لعناية د. كامل إدريس، هل تسمعنى !؟ اللهم هل بلغت .. فاشهد … و نواصل إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..
ليس لها من دون الله كاشفة
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين