المندرة نيوز

كواليس إفشال الانقلاب وتثبيت الدولة.. عندما يكتب إبراهيم شقلاوي في وجه الحقيقة

الخرطوم=^المندرة نيوز^
منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع، تركزت الأنظار على المشهد العسكري والميداني، بينما بقي الدور المدني، وتحديدًا أداء الحكومة الانتقالية بقياداتها المكلّفة، بعيدًا عن عدسات الإعلام ومجهر التحليل السياسي.

خلف الكواليس، كان هناك دور محوري أدّته قيادات الخدمة المدنية، وعلى رأسهم الوزراء المكلّفون، في الحفاظ على تماسك الدولة، وإفشال محاولة انقلابية كانت تتخفى خلف العنف ومحاولة اختطاف البلد.

جاء هؤلاء الوزراء من خلفيات إدارية لا سياسية، وتم تكليفهم في مرحلة حرجة، تزامنت مع انحسار سلطة الدولة المركزية. وجدوا أنفسهم في موقع مسؤولية تنفيذية دون غطاء سياسي، ولا دعم مؤسسي، في وقت كانت فيه الحرب تتمدد، ومؤسسات الحكم تواجه احتمال التفكك والانهيار.

لقاء عابر جمعني بأحد هؤلاء، المهندس ضو البيت عبدالرحمن، الوزير المكلّف للموارد المائية والري حينها، في صالة الترانزيت أمس بمطار جومو كينياتا في نيروبي، ونحن في طريقنا إلى بورتسودان عبر عنتيبي. لم يكن اللقاء مخططًا له، لكنه تحوّل إلى شهادة حية للتاريخ على مشهد نادرًا ما يُكتب عنه الورّاقون، وأضاء زوايا لم تتناولها أقلام الإعلام أو التحليل السياسي.

ما سرده ضو البيت كان قراءة هادئة لكواليس تجربة جماعية عاشها الوزراء المكلّفون، وهم يستوعبون صدمة الحرب، ويمنعون تفكك الدولة، في ظل انهيار قنوات الاتصال، وانهيار بنية الإجراءات، وغياب طاقم العمل التنفيذي.

حين بدأت الحكومة الانتقال إلى بورتسودان، انطلقت فعليًا تجربة “الدولة البديلة” التي عملت تحت الحد الأدنى من الموارد، وفوق الحد الأقصى من الضغط. ولأن معظم الوزراء المكلّفين كانوا وكلاء وزارات أصلاً، فقد امتلكوا مفاتيح العمل التنفيذي منذ لحظة تولّيهم المسؤولية، دون حاجة إلى التوجيه. هذه المعرفة العملية مكّنتهم من إعادة تشغيل الدولاب الإداري.

في وزارة الموارد المائية، كانت التحديات مضاعفة. إدارة ملف المياه في دولة تخوض حربًا، والبنية التحتية مهددة بالقصف والاستهداف، تطلبت استجابات سريعة. من أبرز تلك المواقف، انعقاد اجتماع فني لدول حوض النيل عبر تقنية الفيديو كونفرنس في اليوم الثالث للحرب، من داخل مدينة ود مدني.

كان ذلك قرارًا فنيًا مهمًا، كما أنه رسالة سياسية قوية، مفادها أن الدولة ما زالت قائمة وتفي بالتزاماتها المحلية والإقليمية.

لاحقًا، انتقلت إدارة الوزارة إلى المدينة السكنية التابعة لسد مروي، حيث توجد مكاتب إدارة الخزانات. ومع تصاعد العمليات، واجهت الوزارة محاولتين بالغتي الخطورة:
الأولى، في ديسمبر 2023، حين حاولت مليشيا الدعم السريع السيطرة على خزان جبل أولياء. ورغم صدور بيان منها يدّعي “الحرص على سلامة الخزان”، إلا أن تحركها تسبب في زيادة مفاجئة في المناسيب كادت تُغرق مدنًا بأكملها على ضفاف النيل الأبيض.

التحليل الأمني والسياسي أظهر أن ما جرى كان محاولة لخلق كارثة إنسانية تفتح الباب لتدخل دولي، بجانب الضغط على الحكومة للذهاب إلى التفاوض لإقرار واقع على الأرض.

لكن الوزارة، بجهود قيادتها وطواقمها الفنية، نجحت في احتواء الموقف دون الانزلاق إلى السيناريو المرسوم. أما المحاولة الثانية فكانت في “بيارة مينا” ضمن مشروع الجزيرة والمناقل، حيث سعت المليشيا في فبراير 2024 إلى السيطرة على المنطقة بهدف إنشاء حاجز مائي يتيح لها الالتفاف على الجيش. وقد تمكن المهندسون من إحباط المخطط عبر إجراءات فنية دقيقة للتحكم في المناسيب، أفشلت المحاولة قبل أن تحقق أهدافها.

في بورتسودان، العاصمة المؤقتة، بدأ العمل وكأنه خطة طوارئ دائمة. لم تكن هناك مكاتب ولا مراسم، بل إدارة واقعية من داخل مساكن مؤجرة، بلا سكرتارية، ولا حتى وجبات طعام. الوزراء كانوا يديرون الملفات وهم يرتدون الجلابية، التي أصبحت زيّ العمل الرسمي، والاجتماعات تتم في ظروف معقدة، لكنهم أدوا مسؤولياتهم كاملة كما لو كانوا في مبانيهم الرسمية.

مع نهاية الشهر الثاني للحرب، برز التحدي الأكبر: تأمين رواتب العاملين. وفي لحظة كانت الدولة على حافة الانهيار، كان الإصرار على تثبيت المرتبات رسالة ضمنية بأن الحكومة، رغم كل شيء، باقية ولم تسقط.

الرؤية التي نقلها المهندس ضو البيت عبّرت عن قناعاته، حيث يرى أن فلسفة العمل تحت الضغط تعتمد على احترام القانون، والشفافية، والتراتبية الوظيفية، وإدراك أن القرار الرشيد لا يصنعه إلا من لديه سعة في المعلومات ويقدّر حساسية اللحظة.

الإدارة التنفيذية لم تكتفِ بإدارة الداخل، بل شرعت فعليًا في إعادة تأسيس الدولة من حيث البنية التحتية، والخدمات، والعلاقات الخارجية. أُعيد تشغيل البث الإذاعي والتلفزيوني، ونُقلت الخدمات الحكومية، بما فيها الجوازات والسفر، إلى العاصمة المؤقتة. كما فُتحت اعتمادات استيراد الأدوية، والوقود، والدقيق، رغم الحصار والتحديات اللوجستية.

لقد ثبت بالدليل أن فشل انقلاب مليشيا الدعم السريع لم يكن حصيلة العمل العسكري فقط، بل نتيجة مباشرة لانضباط ووعي الجهاز التنفيذي، الذي احتوى آثار الانهيار، وحافظ على بقاء الدولة.

ومع تصاعد وتيرة التهديدات، يقول ضو البيت، برز دور الفريق مهندس إبراهيم جابر بقوة في لملمة شتات الوزارات وتنسيق الأداء التنفيذي داخل العاصمة المؤقتة. في لقاءات استثنائية، داخل مكاتب مؤقتة جمعت بين الإقامة والعمل، كانت تُصاغ قرارات مصيرية شكّلت عصب الدولة، وأبقتها متماسكة.

أيضًا، واجهت وزارة الموارد المائية تحديًا مزدوجًا في تأمين ريّ المشاريع الزراعية وضمان استقرار إمدادات الكهرباء، خاصة بعد استهداف المحطات الحرارية. وبحسب المهندس ضو البيت، فقد أدارت الوزارة تشغيل الخزانات بقدر عالٍ من الكفاءة، مكملةً فراغًا حيويًا في البنية التحتية، ومانحةً الدولة هامشًا ضروريًا في المحافظة على الخدمات.

بحسب #وجه_الحقيقة، ما جرى في تلك المرحلة هو فصل غير مرئي من كتاب الصمود الوطني. الوزراء المكلّفون لم يتحدثوا كثيرًا، لكن أفعالهم قالت ما يكفي: لقد بقيت الدولة واقفة، لأن هناك من آمن أن المسؤولية ليست منصبًا، بل التزامٌ أخلاقي ووطني في لحظة الحقيقة والتاريخ.

دمتم بخير وعافية.
الأحد 21 أغسطس 2025م

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *