الخرطوم=^المندرة نيوز^
ليست كل الكلمات التي تُكتب عن الثورة والدولة تأتي من بعيد. بعضها يُكتب من قلب التجربة، من صدق الميدان ومن تفاصيل قاعات السلطة. وهذا الفصل، هو شهادة أقدّمها لا دفاعًا عن الماضي، ولا تبريرًا للحاضر، بل إسهامًا صريحًا في رسم ملامح الطريق القادم.
لقد كنت جزءًا من حركة مسلحة قاتلت من أجل التغيير، ثم شاركت في المؤسسات السياسية والبرلمانية للدولة. ومن هذا الموقع، أقول بثقة: الفرق بين الثورة والدولة أكبر بكثير مما نتخيل، وأعمق مما يظهر في الخطابات.
في لحظة الثورة… لا وقت للمؤسسات
الثورة سريعة، ضاغطة، ومشحونة. لا وقت فيها للمداولة ولا للتوازنات. هي فعل “كسر” لا فعل “بناء”. وفي لحظة المواجهة، تتساقط الشرعيات القائمة، ويعلو منطق القوة الرمزية والجماهيرية.
عشنا ذلك. أصدرنا بيانات، شكّلنا مجالس، تولّينا سلطات بلا تفويض قانوني… فقط باسم “الثورة”.
وكان ذلك مفهومًا، وربما ضروريًا في تلك اللحظة. لكن المشكلة الكبرى بدأت حين لم نغادر تلك الحالة بعد سقوط النظام.
في مؤسسات الدولة… كل شيء بطيء ومدروس
حين دخلت البرلمان، واجهت واقعًا مختلفًا تمامًا.
لا قرار بلا مشاورة.
لا صلاحية بلا نص.
لا مسودة بلا تصويت.
ولا موقف بلا مسؤولية سياسية وأخلاقية.
هنا، لم يكن كافيًا أن أقول “أنا كنت ثائرًا”، بل كان عليّ أن أكون مشرّعًا، وأن أفكر بمصلحة الجميع، لا فقط برفاقي في النضال.
اكتشفت حينها أن الشرعية الثورية لا تصلح للحكم طويلًا، وأن الدولة تحتاج إلى رجال يعترفون بالحدود، لا فقط بالحلم.
الصراع الداخلي: بين القناعة والضغط
في تلك المرحلة، عشت صراعًا بين ما كنت أؤمن به كثائر، وبين ما يفرضه الواقع كرجل دولة.
كيف أُوازن بين العدالة الانتقالية والعدالة الإجرائية؟
كيف أشرح للثوار أن من يختلف معنا ليس عدوًا؟
كيف أقنع نفسي أن المساومة أحيانًا ليست خيانة، بل ضرورة سياسية لحماية ما تحقق؟
كانت كل هذه الأسئلة تثقلني. لكنني تعلمت أن الانتقال الحقيقي يبدأ داخل الذات، لا في النصوص فقط.
الثورة صادقة… لكن ليست كاملة
أقولها بوضوح: الثورة كانت عظيمة، لكنها لم تكن معصومة.
ارتكبنا أخطاء. همّشنا بعض الناس. بالغنا في خطابنا. خلطنا بين الخصوم السياسيين وأعداء الثورة.
وحين دخلنا مؤسسات الدولة، اكتشفنا أن كثيرًا من الشعارات لم تصمد أمام الواقع.
لكن هذا لا يُنقص من قيمة الثورة، بل يجعلنا أكثر تواضعًا في قراءتها، وأكثر نضجًا في ترجمتها إلى مشروع دولة.
شهادتي أضعها أمام الجيل القادم
لا أكتب هنا لأحاكم أحدًا، ولا لأُبرئ نفسي.
بل لأقول لمن سيأتي من بعدنا:
لا تسرفوا في تمجيد الثورة، ولا في شيطنة الدولة.
خذوا من الأولى شجاعتها، ومن الثانية حكمتها.
ولا تجعلوا بينهما جدارًا، بل جسرًا.
في الفصل القادم، نطرح سؤال الهوية السياسية لما بعد الثورة:
