المندرة نيوز

وجه الحقيقة_ إبراهيم شقلاوي يكتب.. السودان: من يتجرع السم ومن يقطف الثمار؟

الخرطوم=^المندرة نيوز^

منذ اندلاع الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، يعيش السودان حالة اختطاف سياسي تُرسم ملامحها خارج حدوده. تُفرض عليه تسويات لا تعبّر عن إرادته، بل عن رغبة الانقلابين وداعميهم في صناعة نفوذ داخل البلاد، وفي فضاء القرن الإفريقي والبحر الأحمر.

جاء الموقف المصري بالأمس واضحًا كعادته، من خلال اتصالات وزير الخارجية بدر عبد العاطي بعدد من العواصم الغربية، ومع كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون العربية والأفريقية مسعد بولس، مؤكدًا ضرورة وقف إطلاق النار والحفاظ على وحدة السودان ومؤسساته الوطنية.

لكن هذه الدعوات، لم تترجم إلى خطوات عملية تضع حدًا للمأساة. بل بدت وكأنها غطاءٌ سياسيا لإدارة الأزمة لا لحلّها. فبينما تتحدث واشنطن ولندن عن “الحماية الإنسانية”، كانت مليشيا الدعم السريع ترتكب فظائع في دارفور، عقب سيطرتها على الفاشر بعد مجازر مروّعة ضد المدنيين، لتعيد إلى الأذهان صور التطهير العرقي في القرون الوسطى.

الواقع على الأرض لا يعكس الصورة التي تروّجها بعض وسائل الإعلام والمنظمات الدولية الداعمة للمليشيا. فالجيش السوداني ما زال يسيطر على معظم أراضي البلاد، في الشمال والشرق والوسط والعاصمة الخرطوم، بينما تنحصر سيطرة مليشيا الدعم السريع في دارفور وبعض مدن كردفان.

ومع ذلك تحاول القوى الإقليمية والدولية، عبر ما يسمى بخارطة الطريق، فرض تسوية تُساوي بين الدولة والمليشيا بين من يدافع عن الوطن ومن يعمل على تفكيكه. إنها خارطة طريق تُقدَّم بثوبٍ إنساني، لكنها في الأصل تسوية سياسية تمس السيادة الوطنية، لذلك رفضها السودانيون. لأن القبول بها يعني مكافأة الجريمة وإضفاء الشرعية على مشروع تقسيم الدولة.

ومع ذلك، يواصل المجتمع الدولي ازدواجية المعاير المعهودة: يدين انتهاكات مليشيا الدعم السريع لفظيًا، ويتركها عمليًا تواصل حرب الإبادة.

لقد دعا مسؤولون أميركيون المليشيا إلى حماية المدنيين وفتح الممرات الإنسانية، لكنهم لم يفرضوا عليها عقوبات، ولم يصنفوها كمنظمة إرهابية رغم توصيات الكونغرس ومجلس الشيوخ. أما المنظمات الإقليمية، فخضعت لحسابات المال والنفوذ، ولم تستطع الجامعة العربية ولا الاتحاد الإفريقي تقديم موقف يتناسب مع حجم الكارثة، لتغدو الحرب في السودان مرآةً لنفاق العالم وعجزه السياسي والأخلاقي.

في مواجهة هذا الواقع، لا يملك السودان ترف الانتظار. فالحرب لم تعد مجرد صراعٍ عسكري، بل معركة على هوية الدولة وموقعها في العالم. والحل لن يأتي من الخارج، بل من الداخل، عبر مشروع وطني جامع،

يبدأ تجاوز المأزق حين يُعيد السودان بناء مركز قراره الوطني عبر لجنة وطنية من الحكماء، وبمشاركة قوى المجتمع المدني، لتوحيد القيادة العسكرية والسياسية على رؤية واحدة هدفها استعادة الدولة، لا اقتسامها، وتحقيق السلام وفق شروطها الوطنية، لا شروط المليشيات أو داعميها.

على السودان أن يتحول من موقع ردّ الفعل إلى موقع الفعل. عليه أن يطرح رؤيته الخاصة للحل، بعيدًا عن الابتزاز الإقليمي والدولي، وأن يستدعي صداقاته القديمة وأوراق الضغط التي يملكها، ويدعو الآخرين لدعم مبادرته الوطنية بدل أن يُستدرج إلى موائد تفاوض مذلة.

فوقف الحرب لا يكون بإعادة إنتاج الفوضى، بل بمحاسبة من ارتكب الجرائم. ثم العمل الجاد علي توحيد الصف الوطني خلف مؤسسات الدولة.

وما يحتاجه السودان اليوم هو مبادرة سلام وطنية بأيدٍ سودانية خالصة، تضع العدالة أولًا، وتعيد الثقة بين الأقاليم والمركز، وتفتح الطريق لانتقال منضبط يحفظ سيادة الدولة ويعيد إعمارها على أسس العدل والمواطنة.

ولا تكتمل هذه الرؤية دون إعادة صياغة السياسة الخارجية السودانية. فالتوازن بين الشرق والغرب لم يعد مجديًا في مرحلة يسعى فيها الغرب لإنضاج رؤيته لتقسيم السودان واستباحة موارده. على السودان أن يوسّع علاقاته مع مصر وتركيا وقطر والسعودية لتأمين الدعم السياسي والاقتصادي، وأن يبني شراكات استراتيجية مع روسيا والصين تحفظ استقلال قراره في مجلس الأمن ومشروعات التنمية.

تجاوز المأزق السوداني لن يكتمل دون مشروع لإعادة بناء العقد الاجتماعي. فالحرب كشفت هشاشة الهوية الجامعة وعمّقت الجراح بين الأقاليم. لذلك فإن المصالحة الحقيقية يجب أن تقوم على الاعتراف بالجرائم ومحاسبة مرتكبيها، وعلى إعادة توزيع الموارد بعدل، وإحياء فكرة السودان الواحد المتعدد الذي يجمعه المصير قبل اللغة، والهوية قبل العرق.

هذا هو التحدي الأكبر: أن تعود الدولة إلى معناها، وأن يشعر كل سوداني أن له مكانًا فيها، وأنه ملزم بحمايتها ونصرة جيشها.

ورغم قسوة الحرب وطول أمدها، فإن السودان لم يُهزم. ما زال يمتلك رصيدًا وطنيًا هائلًا، وجيشًا متماسكًا، وشعبًا بدأ يدرك أن الصراع لم يعد بين المدني والعسكري، بل بين الدولة واللادولة.

هذه اللحظة، تمنح السودان فرصة تاريخية لأن يكتب مصيره بيده، ويفرض سلامه بشروط الكرامة والسيادة، لا بشروط الخارج. إن السودان اليوم يتجرع السم نيابةً عن المنطقة كلها: سمّ التدخلات، وسمّ الطمع في موارده، وسمّ المليشيات التي استُخدمت لتفكيك الدولة. لكن الذين يقطفون الثمار هم من أشعلوا النار ثم جلسوا لتقاسم الغنائم. غير أن هذه المعادلة ليست قدرًا محتومًا.

فحين يستعيد السودان قراره، ويُحسن بناء تحالفاته، ويصوغ مشروعه الوطني، سيغدو هو من يزرع الفكرة ويجني ثمارها، وسيدرك الجميع أن الدم الذي سُفك لم يكن هدرًا، بل بذرةً لولادة دولةٍ سودانيةٍ جديدة — لا تُباع ولا تُستأجر، بل تُبنى بالإرادة والوعي والكرامة.

دمتم بخير وعافية.
الخميس 30 أكتوبر 2025م

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *