المندرة نيوز

مصعب بريــر بكتب.. الانسان العارى : الدكتاتورية الخفية للعالم الرقمى (٥) ..!

الخرطوم=^المندرة نيوز^

خامساً : من الحرية إلى التبعية.. هندسة السلوك في زمن الخوارزميات ..

يُخَيَّلُ إلينا ونحن نتصفح الإنترنت أو نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي أننا نمارس أعلى درجات الحرية: نختار ما نقرأ، من نصادق، وماذا نشتري. غير أن الحقيقة التي يكشفها مارك دوغان وكريستوف لابي في «الإنسان العاري» أكثر مرارة: الحرية الرقمية مجرد وهم متقن الصنع. فبينما نعتقد أننا نتحكم في التكنولوجيا، هي في الواقع التي تتحكم فينا، توجه سلوكنا وتعيد تشكيل وعينا خطوة بخطوة.

يشرح المؤلفان أن هذه السيطرة الجديدة لا تأتي من القمع أو الإكراه، بل من الإقناع الممنهج. الخوارزميات صُممت لتتعلم من سلوكنا وتغذيه، ثم تعيده إلينا في صورة اقتراحات لا نقاومها. فكل إعجاب، كل نقرة، كل ثانية من المشاهدة تتحول إلى مدخل في معادلة ضخمة هدفها معرفة ما يُرضينا وما يُغضبنا، ثم استخدام تلك المعرفة لإبقائنا داخل “الفقاعة الرقمية” التي تناسبنا تمامًا. هكذا يتم ترويض الإنسان عبر المتعة لا عبر الخوف.

ويشبّه الكاتبان هذا النمط من السيطرة بـ “الدكتاتورية الناعمة”. لم تعد هناك شرطة سرية أو سجون، بل شاشة تَعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. نعيش في راحة رقمية خادعة، نحصل على كل ما نريد بسرعة، لكننا لا نلاحظ أن هذه السرعة هي ما يقيّدنا. كلما اعتمدنا أكثر على الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قراراتنا، فقدنا جزءًا من إرادتنا الحرة.

تضرب الخوارزميات مثالًا معبرًا عن هذا النمط من الطاعة. فعندما يقرر “يوتيوب” أو “نتفليكس” ما الذي “قد يعجبنا”، فإنه لا يقدم لنا خيارًا بريئًا، بل يوجهنا إلى مسار محدد. ومع مرور الوقت، نصبح أسرى لما يسمى “فقاعة الترشيح”، حيث لا نرى إلا ما يشبهنا وما يؤكد أفكارنا. وهكذا تتراجع قدرتنا على التفكير النقدي والانفتاح على الآخر، ونصبح مستهلكين مطيعين فكريًا وعاطفيًا.

تتحول هذه الدائرة المغلقة إلى مختبر اجتماعي ضخم، تُجرى فيه تجارب نفسية مستمرة دون علمنا. فقد كشفت تقارير أن “فيسبوك” مثلًا أجرى تجارب عام 2014 على مئات الآلاف من المستخدمين لتحديد كيف يمكن للتلاعب بالمحتوى أن يؤثر على مزاجهم. النتائج كانت مذهلة وخطيرة في آن: بتغيير طفيف في ترتيب المنشورات، أمكن رفع أو خفض المزاج العام للمستخدمين. بكلمات أخرى، يمكن للخوارزميات أن تصنع المشاعر الجماعية.

هذه القدرة على التوجيه النفسي هي ما يجعل المؤلفين يتحدثان عن “الطاعة الرقمية”. فالإنسان الحديث، برغبته في الراحة والسرعة، يسلم نفسه طوعًا للنظام الرقمي. لم يعد أحد يجبره على شيء، بل هو من يختار الخضوع. يحصل على خدمات مجانية، على تسلية لا تنتهي، وعلى إحساس زائف بالانتماء، في مقابل أن يتخلى بهدوء عن حريته وخصوصيته.

ويرى دوغان ولابي أن هذه الطاعة الجديدة أخطر من الطغيان التقليدي، لأنها لا تواجهك كعدو، بل كصديق. الهاتف الذكي، الذي نحمله بإرادتنا، هو “السجان اللطيف” الذي يراقبنا بحجة حمايتنا. التطبيقات تقترح علينا متى ننام، وماذا نأكل، وكيف نتحرك. ومع مرور الوقت، يفقد الإنسان حسه بالاستقلال، فيعيش داخل نظام يقرر عنه دون أن يشعر.

بعد اخير :

خلاصة القول، إن جوهر المشكلة، كما يوضح المؤلفان، هو أن التكنولوجيا لم تعد أداة بيد الإنسان، بل أصبحت نظامًا يبرمج الإنسان نفسه. هذا النظام يعتمد على البيانات الجماعية لتوقّع السلوك وتوجيهه، مما يجعل المستقبل أقل حرية وأكثر قابلية للضبط. ولعل أخطر ما في الأمر أن هذه السيطرة تتم باسم “الذكاء” و“الكفاءة” و“الراحة” — كلمات جميلة تخفي خلفها بنية سلطة جديدة لا يمكن التمرد عليها بسهولة.. واخيراً، يدعو الكاتبان إلى وعي رقمي مقاوم: علينا أن ندرك أن الحرية الحقيقية لا تُمنح عبر الأزرار والخيارات الافتراضية، بل تُنتزع عبر الوعي والنقد والمساءلة. علينا أن نسأل أنفسنا في كل مرة نضغط فيها على “موافقة”: هل أختار فعلاً، أم أُختار أنا؟.. ونواصل في الحلقة القادمة: “نهاية الخصوصية وبداية الشفافية القسرية”.. كيف تحولت حياتنا إلى شاشة مفتوحة أمام العالم؟ إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..

 

ليس لها من دون الله كاشفة

حسبنا الله ونعم الوكيل

اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين

#البعد_الاخر | مصعب بريــر |

الخميس (30 اكتوبر 2025م)

 

قم بمشاركة الخبر علي
قم بمشاركة الخبر علي
تابعنا علي قناتنا في الواتساب

إقرا ايضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *