الخرطوم=^المندرة نيوز^
من المؤسف، بل من المثير للغضب، أن نرى في هذا التوقيت الدقيق من تاريخ السودان محاولات لتغليف بعض السياسات المالية بعبارات براقة مثل “الشمول المالي” و”التمويل الأصغر”، في حين أن ما يجري في الواقع هو إعادة تشكيل غير بريئة لهياكل القرار الاقتصادي تحت غطاء الإصلاح والتنمية.
إن تحويل “وحدة التمويل الأصغر” إلى “إدارة عامة للشمول المالي” داخل بنك السودان المركزي، كما أُعلن مؤخرًا، يبدو على السطح خطوة إدارية، لكنه في جوهره يحمل أبعادًا تتجاوز البيروقراطية إلى مساس مباشر بسيادة القرار المالي الوطني.
في زمن الحرب، لا تُدار المؤسسات الاقتصادية وكأن البلاد في سلام. السودان اليوم يخوض معركة وجود، لا معركة حسابات. فأي إصلاح لا ينطلق من ضرورات السيادة الاقتصادية أولاً، إنما هو عبث اقتصادي وخيانة للواقع.
نحن لا نرفض فكرة الشمول المالي بحد ذاتها، بل نرفض أن تتحول إلى قناة لتدوير أجندات خارجية تحت ذريعة “الوصول المالي للفئات المهمشة”. هذه اللغة التي تروق للمؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي ليست بريئة، وقد أثبت التاريخ أن كل تدخل مالي “تقني” من الخارج يحمل في طياته مشروطية سياسية تمس جوهر السيادة.
من يقرأ بين السطور يدرك أن هذا التحويل الإداري ليس إلا مقدمة لتوسيع دائرة النفوذ الخارجي في الجهاز المالي للدولة. تحويل “الوحدة” إلى “إدارة عامة” بصلاحيات موسعة يعني خلق مركز قرار موازٍ داخل البنك المركزي، وهو أمر بالغ الخطورة، خاصة في دولة تعيش صراعاً وجودياً تحاول فيه إعادة بناء مؤسساتها على أسس وطنية لا دولية.
يجب أن نكون صريحين: لا يمكن للسودان أن يتحدث عن “شمول مالي” بينما مناطقه تحت الحصار وموارده تُنهب، ومؤسساته تقاتل لاستعادة سيطرتها على الأرض. الأولوية ليست “التحويلات الرقمية” ولا “التمويل الأصغر”، بل استعادة القرار المالي الوطني من أي يد غير سودانية، وضمان أن كل فلس يُدار داخل النظام المصرفي يصب في المجهود الوطني، لا في خدمة أجندات التنسيق الدولي الذي يروّج له البعض بحسن نية أو بغيرها.
إن الاعتراف بالبنك المركزي كقائد للشمول المالي لا يجب أن يتحوّل إلى إذعان غير معلن لتوصيات المؤسسات الدولية، التي لطالما استخدمت مفاهيم مثل “الإصلاح المالي” و“التمكين الاقتصادي للفئات الهشة” لتفكيك بنى الدول النامية وإعادة هندستها بما يخدم مصالح المانحين لا المستفيدين الحقيقيين.
على البنك المركزي أن يتذكر أنه بنك السودان، لا فرعٌ محلي للبنك الدولي. وأن الشمول الحقيقي ليس في إدماج المواطنين في النظام المالي وفق قوالب أجنبية، بل في تمكينهم من أن يكونوا شركاء في إعادة بناء وطنهم وفق أولويات وطنية خالصة.
السودان اليوم بحاجة إلى مؤسسات مالية ذات إرادة وطنية صلبة، لا إدارات جديدة تُستنسخ تحت أسماء براقة. فالتمويل الأصغر يجب أن يبقى أداة لبناء الإنسان السوداني، لا بوابة لتسليع فقره وإدخاله في منظومات رقمية تُراقَب وتُدار من الخارج.
إن تحويل وحدة التمويل الأصغر إلى إدارة عامة للشمول المالي في هذا الظرف الدقيق ليس مجرد إعادة هيكلة إدارية، بل هو اختبار حقيقي لقدرة السودان على حماية قراره المالي من التدويل المقنّع. فإما أن نحافظ على سيادتنا الاقتصادية الكاملة، أو نُسلّم مفاتيح بيتنا المالي لغيرنا، خطوة بخطوة، تحت شعارات براقة تخفي نيات لا تقل خطورة عن الرصاص.
*والله من وراء القصد.*
وطن ومؤسسات
السودان أولاً وأخيراً
*د. عبدالعزيز الزبير باشا*
*خبير ادارة المخاطر* *الاستراتيجية والاقتصادية*
*07/11/25*







