الخرطوم=^المندرة نيوز^
كشفت الحرب الأخيرة في السودان بوضوح عن أحد أخطر أوجه الخلل الهيكلي في إدارة الدولة: التنمية غير المتوازنة، التي جعلت من ولاية الخرطوم مركزًا أحاديًا جاذبًا للخدمات، والاستثمار، والصناعة، والسكان على حدٍ سواء. إن تدمير آلاف المصانع وتعطل الخدمات الحيوية في العاصمة، كما أشارت وزيرة التجارة والصناعة مؤخراً، لم يكن مجرد خسارة اقتصادية، بل كان دليلاً دامغاً على هشاشة نموذج التنمية المعتمد، وضرورة التفكير الجدي في إعادة توزيع مراكز الثقل الاقتصادي والخدمي.
الأسباب الحقيقية لتكدس الخدمات والصناعة في الخرطوم:
تعود الأسباب الجوهرية لهذا التكدس إلى عقود من التخطيط المركزي الذي رسّخ مفهوم “العاصمة” باعتبارها نقطة الارتكاز الوحيدة للدولة. ويمكن إيجاز الأسباب الحقيقية فيما يلي:
* المركزية المفرطة في القرار: كانت جميع القرارات الاستثمارية، والتشريعات الاقتصادية، والوزارات الاتحادية الحاكمة متمركزة في الخرطوم، مما خلق بيئة جاذبة حصرية للمستثمر الذي يبحث عن سهولة إنهاء الإجراءات.
* البنية التحتية والخدمات المتقدمة (نسبيًا): توفرت في الخرطوم – قبل الحرب – بنية تحتية أفضل مقارنة بالولايات الأخرى، خاصة فيما يتعلق بالكهرباء، والاتصالات، وشبكات الطرق، والمطارات، بالإضافة إلى تركز الجامعات والمستشفيات التخصصية، مما جعلها “البيئة الأقل كلفة” للعيش والعمل.
* الحوافز وغيابها: لم توفر الولايات الأخرى حوافز كافية ومقنعة للقطاع الخاص للخروج من العاصمة، بينما كانت الخرطوم هي الوجهة التي تضمن قربًا من الأسواق الكبيرة، والموانئ (بسبب تسهيلات النقل)، ومصادر التمويل (البنوك الرئيسية).
لماذا لم تنجح الولايات في جرّ استثمارات القطاع الخاص؟
إن تجربة الولايات في استقطاب الاستثمارات لم تنجح بنفس زخم الخرطوم لعدة عوامل حاسمة:
* غياب البنية التحتية الداعمة: لا يمكن للمصنع أن يعمل دون إمداد كهربائي مستقر، وشبكة مواصلات آمنة وفعالة لنقل المنتج، ومصارف للتمويل. هذه العناصر كانت ضعيفة أو غائبة في معظم الولايات.
* المخاطر الإدارية والتشريعية: عانت الولايات من تداخل الصلاحيات الحكومية وتعدد الرسوم المحلية والاتحادية، مما خلق بيئة غير مستقرة وغير متوقعة للمستثمر مقارنة بـ”سهولة” العمل في العاصمة.
* هجرة الكفاءات: تركز الكوادر المؤهلة والعمالة الماهرة في الخرطوم لتوفر الخدمات التعليمية والسكنية الأفضل، مما يعني أن نقل المصنع إلى ولاية أخرى يرفع تكلفة التشغيل بسبب صعوبة استقطاب العمالة المتخصصة.
خطوات نحو مستقبل متوازن:
لصناعة مستقبل متوازن يعتمد على التوزيع العادل للخدمات والصناعة، نحتاج إلى تغيير جذري في استراتيجية التنمية:
* صناعة “مراكز نمو” إقليمية: تحديد عدد من المدن في الأقاليم (الشمال، الشرق، الغرب، الوسط) لتكون “مدن صناعية وخدمية ثانوية”. يجب ضخ استثمارات ضخمة ومستدامة لإنشاء بنية تحتية متكاملة (مستشفيات تخصصية، جامعات نوعية، شبكات طاقة ونقل) في هذه المدن، تضاهي ما كان في الخرطوم.
* الحوافز الاستثنائية للولايات: تقديم حوافز ضريبية وجمركية تصل إلى الإعفاء الكامل لعدة سنوات للمصانع والشركات التي تنشأ خارج الخرطوم، مع تسهيل تخصيص الأراضي الصناعية مجاناً أو برسوم رمزية.
* اللامركزية الخدمية: نقل صلاحيات إصدار الوثائق المهمة (الجوازات، السجلات العقارية، الشهادات الأكاديمية) واعتمادها بشكل كامل إلى مكاتب إقليمية للوزارات الاتحادية في عواصم الولايات، كما أشار اقتراح نقل الوزارات خارج الخرطوم. يجب أن تصبح الخدمات الإلكترونية والمحتوى الرقمي للوثائق متوفرًا ومتاحًا في جميع الولايات لمنع الحاجة للسفر.
* توطين الصناعة على الموارد: ربط المصانع بمصادر المادة الخام (مثل مصانع تكرير السكر في مناطق إنتاجه، ومصانع الألبان حيث تكثر الثروة الحيوانية)، مما يقلل كلفة النقل ويدعم الاقتصاد المحلي.
بعد اخير:
خلاصة القول، إن ما كشفت عنه الحرب من هشاشة نموذج التنمية المركزية ليس نهاية الطريق، بل هو نقطة انطلاق جديدة لإعادة صياغة استراتيجية الوطن. يجب على حكومة الأمل أن تعمل بـ “تفكير خارج الصندوق” بعيداً عن سياسة “إطفاء الحرائق”، وأن تنظر إلى السودان ككل متكامل. إن إعادة التوزيع العادل للصناعة والخدمات ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو صمام أمان وطني لضمان الأمن والاستقرار والتماسك الاجتماعي.. وأخيراً، لنتحرك بجرأة نحو إعادة صياغة الخطط الاستراتيجية، وتقديم الحوافز المغرية، وتقليل المعوقات، لنبني سوداناً متوازناً، لا يضطر فيه المواطن للهجرة الداخلية بحثاً عن الحياة الكريمة. المستقبل لنا جميعاً، والعمل يبدأ الآن.. ونواصل إن كان فى الحبر بقية بمشيئة الله تعالى ..
ليس لها من دون الله كاشفة
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ، و لا يرحمنا يا أرحم الراحمين
#البعد_الاخر | مصعب بريــر |
الثلاثاء (25 نوفمبر 2025م)






