دولة البحر والنهر ام دولة الجحر؟!
القصة وما فيها
النور عادل
الخرطوم=^المندرة نيوز^
أود في البدء أن أقرر أنني هنا حين اقول السودان فأنا أعنيه كله، مسلمييه ومسيحييه وكل اديانه ونحله واجناسه، ولا اقتصر في معالجتي لهذا الموضوع على الجانب الشرعي ولا ادعي العلم المحيط بذلك.
-إن بريق أن يكون لك غرفة خاصة في بيت العائلة الكبير له وقع في النفوس المائلة للخصوصية والخلوة كبير، لكن لا جدال أن لا طعام ألذ من طعام الجماعة، ولا حديث أجمل من حديث تجتمع فيه العائلة والاهل والأصدقاء والأقارب. لكن هذا الزمان بكل أسف قد اتسم بالفردانية الشديدة، اذ بات الجميع في البيت الواحد يكلمون بعضهم عبر هذه الوسائط التي مزجت طبعها الجاف بطباعهم، فجفونا وصرنا مثل هواتفنا لامعين بارزين لكننا بلا روح حية وقلوب واعية، فبتنا نفضل الخيارات السهلة ونعجب بها ونؤيدها رأسا ونكره الصعبة منها لأنها تدعو البحث والتأمل والمشقة الذهنية.
-لا يزال السودان يعيش آثار كارثة انفصال الجنوب إلى اللحظة، فبجانب التبعات الاقتصادية الواضحة، هنالك التبعة الاجتماعية شديدة التعقيد، اذ تحولت ملايين الأسر في الخرطوم او السودان المتبقي صبيحة اعلان الانفصال في ٢٠١١ أصبحت أجنبية بموجب القانون، عومل الأبناء في المدارس معاملة الأجانب، اضطرت زوجات وازواج للانفصال لان أحد الطرفين بات أجنبيا ولا يرغب في البقاء والآخر لا يرغب في الرحيل.
-من ناحية اقتصادية، فقد السودان ككل ما لايقل عن ثلثي وزيادة من نفطه تحت الارض، وبقي له بعض الآبار وحقول التكرير وحق العبور، ما اثر في اقل من عامين على مجمل الإقتصاد الوطني وفي ظل خمسة اعوام حتى العام ٢٠١٦ قفز التضخم جراء فقد العملة الأجنبية بسبب توقف عائدات النفط إلى اكثر من نحو ٣٠ درجة إلى أن وصل ذروته نهايات ٢٠١٩ وقالت الإنقاذ الروب. ولا يزال اتباع تلك الزمرة الفاسدة يفسدون.
-من ناحية أمنية سياسية، بات للسودان جوار آخر ضعيف ناشئ، يعاني من الهشاشة الأمنية والضمور الاقتصادي ما أدى لموجة نزوح او بوصف أدق قانونا لجوء عسكي إلى السودان القديم، مما زاد من عبأ عملية ضبط الامن الحدودي والداخلي وعقد الملف الاقتصادي أكثر بسبب توقف العلاقات التجارية تماما بعد حادثة احتلال هجليج، إذن أضيف بعد حربي عسكري آخر وهو أطماع الدولة الوليدة في التمدد والتوسع افقيا ناحية الدولة القديمة. وزاد من تعقيد الورطة الامنية هو بقاء آلاف الاجانب ممن كانوا بالأمس مواطنين، زاد عددهم جراء اللجوء بعد اندلاع الحرب بين مكونات الحركة الشعبية في الدولة الجديدة. ولا يزال الصداع مستمر إلى لحظة كتابة المقال، وعجبي لا ينقضي من دعاة دولة البحر والنهر!
-يجب أن نؤكد على أن معالجة الازمات السياسية لا يصلح لها على الإطلاق طريقة معالجة الافكار ومقارعة الفرق، فهي ليست بعملية فكرية ثقافية تخضع لقوانين الجدل والمناظرة بين أهل الفرق والملل، هات اية خذ حديثا، هاك نصا خذ تأويلا، منطقيا كيت غير منطقي كذا. هي بالمقام الاول عملية سياسية حساسة جدا، فيها الكلمة توزن بميزان الذهب، ليست مجرد منبر مقارن بين الشعر العربي القديم والحديث والدوبيت. وقد أضر الراحل الطيب مصطفى بهذه القضية أشد الضرر – عفا الله عنه وغفر له – في صحيفته الانتباهة وقد كنت بكل أسف من أشد المعجبين بقوة طرحه وشدته على العلمانيين، لكنني نسيت وسهوت عن التحليل السياسي لمستقبل وطني غفر الله لي وتجاوز عني.
-لو تأمل الزملاء والأخوة الافاضل من دعاة دولة البحر والنهر في دعواهم لوجدوا أن أكبر مستنداتهم الداعية لقيام هذه الدولة، هو مستند نفسي انفعالي كرد فعل على دعاة جدلية الهامش والمركز. وكلا الطرفين لا رؤية سياسية له نافذة على الغد، غاية ما عندهم حرارة قلب، وأحلام بالاستقرار مع المكون الاثني والقبلي المنحدرين عنه، ولعمري لو تأملوا وصدقوا مع أنفسهم واعادوا النظر كرتين لوجدوا أن هذا أيضا لا يحصل لهم، إذ الفتنة العنصرية بين أبناء العرق الواحد هاهنا لا تقل حمية عن الغير، فهنا بكل أسف مثلا تجد الزعم بأن هناك الجعليين الأحرار والجعليين العبيد! وهناك المولدين من جاريات وخادمات زنجيات، وهناك النضيفين وغير النضيفين… لغة موغلة في الفساد والتهتك يحفظها إلى الان الكبار في مجالسهم العامة. أدت لكثير من الخراب ولا تزال. هنا في الوسط حيث لعلها عاصمة دولة البحر الجديدة بشر ومسلمون لا يعدون اولاد عرب ويعاملون في بعض المجتمعات بدونية وشيء من اذلال وتحقير اجتماعي. فأي سلام وأي تقدم وأي استقرار نرجوه من وراء تمزيق ما تبقى من جسد هذا الوطن المجني عليه بأيدي ابناءه؟! أي عقل ورشد في تبني دعاوى الكبار وإعادة بناءها وفق قوالب جديدة تزعم الفهم والتحديث والمواكبة، بل والشرعية!
لاينبغي ولا يصح للعاقل أن تأخذه العزة بدعوى خصمه فينسج على منوالها أخرى مشابهة لها نكاية له.
ومن المؤسف أنه حتى نظرية الهامش والمركز التي تعتبر منفستو الافريكانيزم، هشة في تصورها ومبناها وبأقل جهد نظري سطحي لا تصمد، برغم سعة ثقافة الدكتور أبكر ادم إسماعيل وروعة بيانه الأدبي في الضفة الأخرى والطريق إلى المدن المستحيلة، الا أن ما خطه كنظرية فطير وغث وللأسف هذا زمن الغثاء له سوق رائج وزخم شديد، فانضم لسوقه أدباء وعقلاء جدد ما كنا نحسبهم يوما ما يخوضون في أسواق الجهل والعروض المجانية شديدة السوقية.
الله غالب.