الخرطوم=^المندرة نيوز^
ما جرى أمس في العاصمة الخرطوم يرقى إلى مستوى التحول الخطير في بنية الدولة السودانية، ويكشف عن مرحلة متأخرة من الانهيار الفعلي للدولة وهو أمر متوقع لتاريخ طويل من الاخطاء الفادحة والكارثية . فبعد أن أصدرت حكومة بورتسودان قرارا بخروج كافة التشكيلات المسلحة من الخرطوم، جاء الرد صادما وقاسيا من القوات المشتركة إذ انها رفضت الخروج وبكل وضوح ، وأكدت عبر إعلامها بأنها لن تُنفّذ مثل هذه القرارات “إلا بعد دراستها”، بل وذهبت أبعد من ذلك لتقول إن أي قرار يتعلق بها لن يُنفّذ إلا بإرادتها.
هذا التصريح، في سياق دولة طبيعية، يُعتبر تمردا على السلطة الشرعية، لكنه في واقع السودان اليوم، هو ببساطة انعكاس للفراغ الكامل الذي في مركز القرار.
من “البلد دي بلفها عندنا” إلى واقع اليوم :
هذا المشهد يُعيد للأذهان وللمرة الثانية مقولة حميدتي الشهيرة عقب اعتقال الصادق المهدي في 2014، حين قال:
“البلد دي بلفها عندنا، نقول اقبضوا الصادق يقبضوا الصادق فكوا الصادق يفكو الصادق. ولما الحكومة تعمل ليها جيش، خليها تجي تتكلم معانا …. الخ حديثه “.
اليوم، لم تعد تلك المقولة مجرد تهديد عابر من مليشيا ، بل تحوّلت إلى قاعدة سياسية وعسكرية فمن يملك السلاح يفرض شروطه، ومن لا يملكه عليه أن “يُحنِّس” ويتوسل “النقاش” لتنفيذ أوامره.
حكومة بلا جيش… ومليشيات بلا ولاء:
لقد إرتكبت حكومة بورتسودان خطأ كارثيا حين سعت إلى كسب ولاء قوى السلاح عبر تفكيك الجيش الوطني والاستعاضة عنه بالمليشيات والمرتزقة، تحت ذريعة مواجهة خطر إنقلاب الجيش عليها . لكنها بذلك سلّمت أدوات السلطة لأطراف لا تؤمن بالدولة أصلا، وإنما بمصالحها الفئوية أو الإقليمية أو حتى الخارجية.
والآن، حين تطلب هذه الحكومة من تلك المليشيات مغادرة العاصمة، تُواجَه بردٍ واضح: “لن نخرج إلا بإرادتنا”.
ما معنى ذلك؟
ببساطة: الدولة انتهت، والقرار لم يعد بيد من يُفترض أنهم يحكمون البلاد.
فحين تتعدد مراكز القوة، وتُصبح العاصمة نفسها خاضعة لتوازنات بين ميليشيات، فإننا لا نحتاج إعلانا رسميا بانهيار الدولة. ما نراه الآن هو فوضى منظمة، تُدار تحت لافتات سياسية او قل فواتير حربية ، لكنها في جوهرها هو صراع بين أمراء الحرب.
الفرصة الأخيرة: توحيد الصف الوطني ولو على حساب السلطة الحالية
أمام هذا الانهيار، لا توجد خيارات كثيرة او متسع من الوقت لمناورات جديدة . إن الطريق الوحيد المتبقي أمام حكومة بورتسودان – إن كانت جادة في الحفاظ على السودان موحدا – هو جمع الصف الوطني، دون قيد أو شرط، ودون حسابات الربح والخسارة السياسية. بل يجب أن تكون الحكومة مستعدة لتحمّل نتائج هذا المسار الوطني، مهما كانت مؤلمة:
• إن أدى إلى محاسبة من يحكمون الآن، فلتُفتح ملفات المحاسبة وليتحملوا مسئولية قراراتهم .
• وإن اقتضى إبعادهم من المشهد نهائيا، فليكن ذلك ثمنا لبقاء السودان دولة.
الوطن في حالة خطر وجودي، ولا مكان فيه اليوم لمعادلات سياسية قصيرة النظر، أو تسويات مؤقتة تُبقي على “الحكم” وتُفرّط في الدولة. لأن نتائج هذا المسار الوطني ستحدث طال الزمن ام قصر ومن الأفضل القيام بها الآن وليس غدا علهم يجدوا بعض العزاء .
خلاصة :
لقد انهارت الدولة عندما بدأت تُدار بالولاء لا بالكفاءة، وبالمرتزقة لا بالمؤسسات. وكل تأخير في مواجهة هذه الحقيقة يزيد فاتورة الانهيار.
إن اللحظة تتطلب تضحية وطنية وأخلاقية، لا من الشعب، بل من الحاكمين أنفسهم. فإما أن يُضحّوا بالسلطة من أجل السودان، أو يُضحّى بالسودان من أجل بقائهم.
ولن يبقي السودان ان بقوا
١٩ يونيو ٢٠٢٥